📁 آخر الأخبار

البيوغرافية التاريخية

تقديم عام:

لقد انصهرت البيوغرافيا في مجمل العلوم الإنسانية انصهارا حاسما زاد من شأن ذاتية الفرد؛ ومن تدفق مفاهيم قوية من الحرية وحقوق الإنسان، فارتبطت كل التطورات التي عرفتها البيوغرافيا بالتحولات المعرفية التي قامت بإعادة النظر في وضع الفرد من حيث هو إنسان في النسق الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، كما تعددت وتنوعت الكتابات البيوغرافية واستطاعت أن تفرض نفسها وأن تحقق نجاحا باهرا، حيث انتشرت أصناف متعددة كحقل جديد لإحياء الذاكرة التاريخية، أهمها السير الاجتماعية، والسير المتوازية، والسير المتقاطعة والسير الفكرية، وسيرالناس العاديين.
  • فما المقصود بالبيوغرافيا التاريخية؟
  • ما الظروف الممهدة لنشأة البيوغرافيا التاريخية؟
  • ما هي العناصر المنهجية لدراسة البيوغرافيا التاريخية لشخصية معينة؟

مفهوم البيوغرافيا التاريخية

تترجم البيوغرافيا بسيرة الحياة، وهي كلمة غير عربية تأتي من الإغريقية Bioypaphia عن طريق اللاتينية Biographia هي كتابة السير الذاتية مع حساب زمني للتعليم والخبرات والمعارف العلمية والعملية والمراكز التي تحققت لصاحب السيرة، غالبا الشخصيات والكتاب والمشاهير والإعلاميين والمخترعين يلجؤون إلى الحساب الزمني المختزل في قراءة سيرهم الذاتية، لأن مسيرتهم أشمل من السيرة العادية للشخص المقصود، قد تشمل البيوغرافيا على قصة حياة مركزة، وقد تكون محطات مختلفة، انتقل فيها صاحب السيرة وتغيرت فيها ظروفه وأفكاره وانتاجه.

البيوغرافيا عند جاك لوغوف

أثارت العودة إلى البيوغرافيا في الكتابات التاريخية ردود أفعال متباينة ووصف أغلب الإنتاج بأنه مجرد أقصوصات وحكايات بسيطة لكتاب رديئين شبههم جاك لوغوف "بالمهاجرين الذين عادوا بعد الثورة الفرنسية دون أن يتعلموا جديدا أوينسو قديما"، واعتبر أن هذا الإهتمام بالسير ليس إلا عودة غامضة إلى مواضيع تاريخية قديمة، تحركها بعض التوجهات الايديولوجيا، كما أكد في مقاله الشهير "كيف نكتب البيوغرافيا التاريخية اليوم" بمجلة حوار أن هذه العودة ليست إلا جزءا من التحركات ضد تاريخ الحوليات.
واعتبر جاك لوغوف أن من مهمات التاريخ الجديد إعادة طرح مسألة هؤلاء العظماء بمنح صفة علمية جديدة لتاريخ السيراقتداء بما فعله لوسيان فيفر في كتابه "لوثر" وارنست كانتور فيتز في كتابه فريديريك الثاني، وبيار غوبار في كتابه لويس الرابع عشر وعشرين مليون فرنسي.
نبه جاك لوغوف القارئ في تقديمه للطبعة الأولى من المؤلف الجماعي "التاريخ الجديد" إلى أن المقالات المرتبطة بالسير و التراجم قليلة ولم تهتم إلا بالمؤرخين الذين لهم قيمة خاصة من منظور التاريخ الجديد، مثل هيرودوت ومؤرخين وفلاسفة عديدين، وطرح إمكانية كتابة سيرة أو ترجمة لهم، لكن بمنهاج التاريخ الجديد.
إن البيوغرافيات التي لها أهمية وقيمة في نظر جاك لوغوف هي تلك التي تسلط الضوء على المجتمع والحضارة والحقبة وذلك من خلال تناول الشخصيات التاريخية، وقد أعطى المثل بالسيرة التي أنجزها عن القديس لويس التاسع (1214 - 1270م) واتبع نفس المنهج في السيرة التي أنجزها سنة 2008م بعنوان (مع هانكا) وهي بيوغرافية خصها المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف لزوجته البولندية الأصل هانكا، التي توفيت سنة 2004، حيث يفوض المؤلف في سير حياة مشتركة بدأت بالزواج منذ 1692 والبطل هذه المرة ليست شخصية تاريخية مشهورة، وإنما الزوجة والرفيقة التي تتبع حياتها عن طريق وضعها في سياق تاريخي واجتماعي، وهكذا فجاك لوغوف لم يتخلى عن مهنته كمؤرخ، حيث جعل من الكتاب تاريخا للعلاقات البولندية الفرنسية من بداية الحرب الباردة إلى الفترة الراهنة، فهي سيرة حرص فيها المؤرخ على أن يضع حياة زوجته في سياق المحيط والحقبة التاريخية التي عاشها.
كما استمرت بعض مجالات البيوغرافيا في الوجود خلال مرحلة الحوليات فأطلق عليها جاك لوغوف تعبير السير الإجتماعية الجديدة، حيث تمثل الشخصيات رموزا دالة على مجتمعات بعينها ورحب بوجودها هذا المؤرخ لكونها تنير في نظره تاريخ الأعلام من خلال إبراز إنجازاتهم والبنى الإجتماعية التي أفرزتها.

البيوغرافيا لدى فرنسوا دوس

بخلاف جاك لوغوف فإن فرنسوا دوس أطلق عليها إسم البيوغرافيا النموذج، واعتبرها مرحلة انسياق وراء موضة الفئات الإجتماعية، وهي تهدف إلى نمذجة تصوير السلوكات والإعتقادات الخاصة بوسط ما أو لحظة معينة، بمعنى أنها تحيل على نموذج تمثيل صنف اجتماعي.

البيوغرافيا لدى جون تولار

أما كاتب بيوغرافية نابليون جون تولار فقد اعترف بشكوكه حول البيوغرافيا، ففي سنة 1975 طلب منه كتابة بيوغرافيا تاريخية لنابليون بونابرت لكنه ظل متحفظا من استعمال هذه الكلمة التي كانت خلال تلك الفترة تنتمي للمحرمات الجامعية بقوله "كنت قبل كل شيء باحث ورغم ان شعارات التاريخ لم تكن تثيرني البتة إلا أني كنت أنتمي قبل كل شيء الى الحقل الاكاديمي البيوغرافيا لا يمكن ممارستها في الجامعة لأنها لم تكن تاريخا وإنما ادبا" فقد تناول المؤرخون التابعون لمدرسة الحوليات بعض الشخصيات التاريخية فقط بهدف إبراز الهياكل العميقة للفترة الزمنية التي عاشوا خلالها وايضا في المرحلة الحرجة (1988 - 1989).

السياق التاريخي لنشأة البيوغرافيا

مع بداية الثمانينيات توفي عدد مهم من رموز التيار البنيوي واختفت فجأة من الساحة أعمالهم، كلود ليفي ستراوس وميشال فوكو وجاك لاكان، فالأفكار التي ظهرت في الثمانينيات نعتت بفكر مابعد البنيوي وهي حقبة لجيل جديد من المثقفين المدافعين عن عودة الفرد متجاوزين النزعة البنيوية التي ركزت على المجتمع وأهملت الفرد كما تمت إعادة ربط الصلة بين الفلسفة والعلوم الانسانية.
لقد كان الادراك الواعي بالذات غائبا إبان السنوات البنيوية حيث اعتبر هذا التيار بأن الذات فرضية مزعجة وبلا فائدة بل وعار فكرة انتقال الأفكار الأنجلوساكسونية إلى فرنسا، لكن وبفضل جهود مفكرين وفلاسفة انطلاقا من الثمانينيات مثل جون فرانسوا ليوتار وميشال سار و جاك ديريدا وجون بيار الذين خاضوا تجربة التدريس بالولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت فكرة تقبل الفلسفة الانجلوساكسونية التحليلية من جديد فنرى خلال الثمانينيات عودة للفاعل في علم الاجتماع، فقد كرس على سبيل المثال ألان تورين كتابا لمسألة عودة الفاعل، كما يمكن اعتبار كتاب رولان بارت بقلمه نموذجا من تقليل مقاومته إغراءات الرجوع إلى الذات عن طريق الأدب وأيضا في كتابه شذارات من خطاب غرامي، وفي النقد الأدبي اهتم فبليب لوجين بكتابات السيرة الذاتية.
خلال القرن العشرين عانت البيوغرافيا بشكل عام من الشكوك خاصة في فرنسا، وظلت محصورة في الأوساط العلمية ووجهت لها اتهامات بقلة الضبط و الافراط في الخيال و الانتماء للتاريخ السردي، لكن منذ ثلاثة عقود من الآن بدآت البيوغرافيا في استعاد مشروعيتها المفقودة وخاصة في المجال الأكاديمي ويشهد على ذلك الكم الهائل من الاصدارات، وهو الزخم الذي وصفته مجلة لوفيغارو بالانفجار البيوغرافي.

العناصر المنهجية لدراسة بيوغرافية تاريخية

  • الصفات الشخصية: تاريخ و مكان الولادة، مدة الحياة وتاريخ الوفاة، الانتماء الاجتماعي، الصفات النفسية (إذا توفرت)؛
  • أهم الاحداث والشخصيات التي تأثرت بها: التكوين العلمي والثقافي، أهم الأحدات التي عاصرتها، أبرز الشخصيات التي احتكت بها وتاثرت بها، أهم الأفكار السائدة في عصرها؛
  • المسؤوليات والمناصب التي تقلدتها: مسؤوليات إدارية، مسؤوليات سياسية، مسؤوليات عسكرية، مسؤوليات مدنية؛
  • المنجزات والأدوار التي قامت بها: مؤلفات علمية، منشئات عمرانية، إنجازات عسكرية، إنجازات سياسية.

خلاصة:

أصبح النوع البيوغرافي من أكثر الكتابات التاريخية انتشرا وازدهارا في العالم وبسبب التجديد الذي عرفه ميدان التاريخ فإنه أصبح موضوعا للنقاشات الاكاديمية وتأسس سنة 1999م بفرنسا مرصد البيوغرافيا التاريخية برئاسة فرنسوا ليبرون، واهتم هذا المرصد بالدراسات البيوغرافية. ساهم في إبراز المكانة التي يستحقها هذا النوع، كما عقدت جامعة السوربون في 30 مارس 2009 ملتقى تحت عنوان "الخلاف ما بين القدامى والمعاصرون: البيوغرافيا التاريخية بين التقليد والتجديد" بإشراف الأستاذ كيوم باين المتخصص في التاريخ الألماني المعاصر.

المراجع:

  • خالد طحطح، البيوغرافيا والتاريخ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الاولى 2014؛
  • جاك لوغوف، التاريخ الجديد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الاولى 2007؛
  • الموقع الالكتروني: istafid.com .
تعليقات