تقديم:
بكلمات موجزة المبنى ورفيعة المعنى، أوجز عمر بن الخطاب معالم سياسته في الخطبة التي ألقاها على الناس أوضح فيها خطته في الحكم فور استقباله الخلافة ورئاسة الدولة التي اعتبرها ابتلاء واختبار ومسؤولية أمام الخالق وعباده "إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم". اعتبر أن الولاية على الناس وسياستهم تتطلب قوة جبارة للقيام بالأعباء الجسام، تدبير شؤون الرعية ومؤسسات الدولة.
الحزم والصلابة وعدم الهوادة والملاينة مع الأقارب والأصحاب والمقربين "ليعلم من ولي هذا الأمر من بعدي أن سيريده عنه القريب والبعيد، إني لأقاتل الناس عن نفسي قتالا".
أبرز صفات الخليفة المسؤول عن الدولة:
كان قويا في علمه هينا لينا في سياسة الناس سخيا كريما في البذل والعطاء لعامة الرعية دون محسوبية، فكان يقول "اللهم إني غليظ فليني شحيح فسخني ضعيف فقوني". إن شرعية التنصيب والاستخلاف تفرض سلك هدي من سبقوه، "فكنت بين يديه صلى الله عليه وسلم سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ومع ابي بكر أخلط شدتي بلينه". كما حدد سياسته المالية بتأسيس جهاز بارع لضبط الأداء المالي للدولة مع مراعاة أحوال الناس ومعاشهم، وتطور الحياة ومتطلباتها بزيادة الأعطيات والأرزاق.
سعى الخليفة في عهده إلى حماية حدود الدولة الإسلامية من العدوان في الخارج ورعاية شؤونها في الداخل ويقول في هذا الصدد: "ولكم علي أن أسد ثغوركم وألا ألقيكم في المهالك ولا أثمركم في ثغركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم".
أسس الخليفة عمر جهاز الرقابة على مفسه وعلى والدولة، كما دعى إلى الجد والاجتهاد في الأمور كلها. وبذلك اعتبرت خطب الفاروق منهجا قيما وواقعا صادقا، صدقته الأيام الخالدة وزينته الأعمال الماجدة.
دستور العدل في عهد عمر بن الخطاب والتنظيم القضائي:
من يستقرئ التاريخ والواقع الشاهد يعلم أن موازين العدل في عهد الفاروق عمر بن الخطاب وسياسته كانت مثلا لا يبارى في هدي الحاكم المسلم الذي قام بواجباته على أرفع ما تطمح إليه النفس البشرية وتحض عليه مبادئ الحق والعدل والمساواة والورع، كما بلغ تنظيم القضاء قمته نظريا وعلميا من خلال الكتب والرسائل الخالدة التي سطرها لتنظيم القضاء وإرشاد القضاة لتحري العدل ومنع الظلم وبيان المنهج القويم، وفي هذا السياق يعتبر الكتاب الذي أرسله عمر إلى أبي موسى الأشعري أشهر وأجل كتاب في تاريخ القضاء الإسلامي.
وعنه قال العلامة علي الطنطاوي، أحد مشاهير قضاة الشام "وقد جمعت هذه الرسالة العجيبة آداب القاضي، وأصول المحاكمة، وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة، ولا تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها، ولم يكن لعمر من الآثار غيرها، تعد بها من كبار المفكرين والمشترعين".
ولعل من أهم تعاليم هذا الكتاب التي لا تزال خالدة في إقامة موازين العدل نذكر:
- صحة الفهم والفقه في القضية من أهم ما يساعد على القضاء؛
- الحكم العادل أوجب تنفيذه والإلتزام به وأخذ الحق لصاحبه إذا رفض المدعى عليه تسليمه؛
- المساواة بين الخصوم في المجلس وفي نظر القاضي والقضاء، وإذا اختل أحدها تسرب الطمع إلى القوى بحيف القاضي واليأس إلى الضعيف من العدل؛
- الاستماع لطرفي الدعوى وطلب البينة من المدعي على دعواه وعند غيابها يحلف اليمين؛
- إقامة القاضي الصلح جائز بين الخصوم شرط توافق مع الكتاب والسنة وما غير ذلك فهو غير جائز؛
- لا رجوع فيما قضى القاضي في قضية وتنفيذه الحكم فيها؛
- الحث على الأخذ بما ورد في القرآن والسنة في إصدار الأحكام، والقضايا التي ترد على القاضي ليس فيها حكم ظاهر فهي تحتاج إلى تدقيق من القاضي وصوله لأحب الطرق إلى الله.
مزايا الحكم في خلافة عمر بن الخطاب:
الاستقلالية:
إن اتساع الدولة الإسلامية فرض تطور المؤسسة القضائية وتفرع أصولها، فعين أمير المؤمنين القضاة في الأمصار، وحدد لهم الرواتب والعطاء ووضع التوجيهات والقواعد، بحيث تم الفصل بين مهام القضاة والولاة، لذاك كان اختياره للقضاة بتعيينهم أو عزلهم من اختصاص الخليفة أو بتفويض منه، وفق معايير أسماها قول الحق والقضاء به.
العدالة:
وسع أمير المؤمنين دائرة العدل في جميع أمصار دولة الخلافة باعتبارها أحد أركان الحكم الإسلامي وأقدس الواجبات التي يتحتم إقامتها بين الناس ووجوب هذا المبدأ الجليل صريح في آيات الكتاب العزيز ونصوص السنة الشريفة. وقد اشتهر عمر بالعدل حتى أصبح واسمه متلازمين، وفي هذا السياق أشار حبر الأمة ابن العباس (أكثروا ذكر عمر فإنكم إذ ذكرتموه ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله تبارك وتعالى).
والعدل طال كل مناحي الحياة على اختلاف المجالات، العدل في الجباية دون الإخلال بحقوق بيت المال. العدل في فرض الجزية والتسامح مراعاة لأحوال الناس، وتسقط الجزية عن دافعها في حال إسلامه أو في حال عجزه.
رقابة الأمة على سياسة الخليفة:
رفع الفاروق في سماء الحرية وحق الأمة في رقابة الحاكم ومحاسبته ومحاكمته ومشاركته في سياسة الدولة، حيث كان له من الصرامة والحزم في إطلاق حق الرعية في النصح والمشورة والرقابة في شؤون الدولة. فكان يسعده ويشرح صدره أن يسمع رجلا يقول: "لو رأينا فيك عوجا لقومناك إن الخليفة عمر يريد بذلك أمة شجاعة صريحة عادلة بقلوب ثابتة وعيون مبصرة، وهذا لا يتحقق إلا عندما يعطي الفاروق أدنى رجل في المسلمين أن له من الحق في وطنه ودولته ونفسه مثل ما لأكبر مسؤول لا حيف ولا شطط ولا قهر ولا جبر".
ينظر في الشكاوى صغيرها وكبيرها التي كانت تبث إليه عن الولاة، فيلاحقها ويحقق فيها وتنشر الآراء والمشكلات على الملأ في مواسم الحج. وكان يقتص من عماله إذا اشتكى إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه به "
المساواة:
ويبين ذلك ما كتبه إلى عمرو بن العاص واليه على مصر " إياك أن يقدم عليك احد من أهل بيتي فتحبوه بأمر لا تصنعه لغيره، فأفعل بك ما أنت أهله".
إقامة نظام الحسبة والعسس:
باعتبارها نظام يقوم على رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق موظفين يراقبون نشاط الأفراد في مجال الإقتصاد والدين والأخلاق وأي مجال من المجالات الإجتماعية تحقيقا للعدل والفضيلة ووفقا لمبادئ الدين المقررة في الشرع الإسلامي والأعراف المألوفة في كل بيئة وزمن. وشملت الحسبة جوانب مختلفة منها:
الحسبة على الأسواق والتجارة لمنع أي أشكال الغش و الإحتكار، ووضع قوانين تنظم تجارة الأسواق من السوابق العمرية في مجال الإقتصاد.
خلاصة
وقد استمر التفاف المسلمين حول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي امتدت خلافته عشر سنوات، كانت كلها حافلة بالأعمال العظيمة، ومنها توطيد نظام الخلافة الإسلامية والقضاء على الإمبراطورية الفارسية في العراق وفارس شرقا، و انتزاع الشام ومصر و طرابلس من الإمبراطورية البيزنطية غربا.