📁 آخر الأخبار

بوادر الفتنة في عهد الخليفة عثمان بن عفان

تقديم

إن التغير الهائل الذي أحدثه الإسلام في خريطة العالم المحيط به، وفي عقائده ونظمه لم يكن ليمر دون أن يعكس آثاره بصورة أو بأخرى على الإسلام نفسه، ممثلا في دولته ومجتمعه، وبصفة خاصة في زعمائه وولاتِه الذين حملوا أعباء هذا التغيير والتمكين لدولة الإسلام. وهو ما خلق مناخا متوترا من جانب الذين كان حظهم من تزكية الإسلام للنفس ضئيلا، وما حصلوا عليه من التربية الإيمانية ناقصا في جو نمى فيه دور القبائل العربية ورفعت العصبية القبلية رأسها حتى ظهرت رواسب الجاهلية فوق سطح المجتمع.


وقد مرت السنوات الست الأولى من خلافة عثمان بن عفان في أقصى درجات النجاح، وحقق المسلمون فيها إنجازات عظيمة، كتثبيت الفتوحات في البلاد التي انتفضت عقب وفاة الفاروق وفتح بلدان جديدة وتوسيع رقعة الإسلام. إلا أن ما بقي من سنوات خلافته تحولت إلى اعتراضات وتمردات على الخليفة وولاتِه، وتحولت إلى محنة هبطت بها شراسة المتآمرين إلى السفح وارتفع بها الخليفة الشهيد وحكمته إلى القمة.

بواعث الفتنة على عهد الخليفة عثمان بن عفان:

تعددت الاعتراضات ضد الخليفة عثمان وتدابيره السياسية والإدارية، التي اقتضت أن يكون له بعض الخصوم بالحق أو الباطل، والتي لم يصن فيها الثائر هيبة الخلافة وآداب الخلاف ولا حفظوا وحدة أمتهم ومجتمعهم ومن ذلك:

تولية القرابة:

ادعائهم عزل نفر من الصحابة عن الإمارة وتعيين الأقرباء من الخليفة، واتهام الأمويين استغلال صلتهم وقرابتهم للخليفة واستحواذهم على ما ليس لهم به حق (تعيين معاوية بالشام، وعبد الله بن سعد بمصر، وسعيد بن العاص بالكوفة…).

السياسة المالية:

اتهام الخليفة بسوء التصرف في مال المسلمين والإنفاق من بيت المال على ذويه وأقاربه، وما كان بذلك من لين وسخاء للخليفة إلا وانقلب ضده. "وإذا اقترض رجل بضعة آلاف من بيت المال وكان من حق المسلمين أن يقترضوا من بيت مالهم، قالوا إن الخليفة منحه إياها بغير حق".

سياسة النفي:

بحيث أشاع المعترضون أن الخليفة عثمان وقف موقفا اتسم بالشدة تجاه بعض الصحابة الأجلاء، كنفي أبا ذر الغفاري بعد أن شكاه معاوية للخليفة فنفاه من الشام للمدينة، ونفيه دعاة الفتنة من الكوفة للشام بسبب اعتراضهم أوامر واليهم سعيد بن العاص.

الاعتراض على اجتهادات الخليفة وأهليته في الفتوى والاجتهاد:

فاتخذوا بعض فتاواه سلاحا يشهرونه للثورة عليه، مثل توحيد المصاحف وإحراق المصاحف الأخرى. فلم يترك الثائرون بابا للعيب إلا لمزوه منه.

سياسة العقاب:

حيث أقام عثمان رضي الله عنه الحد على أهل المدينة ومنهم محمد بن أبي حذيفة الذي أقام عليه الحد في الشرب. وبذلك كان لابد لأسباب الفتنة وبواعثها التي كانت تعمل تحت السطح أن تطفو وتقفز للظاهر، ويحصد المتآمرون ما زرعوه. لكن الحقيقة التاريخية تنطوي على أسباب ودوافع أعمق من أن تكون مؤخذات استغلها المتآمرون البغاة على عهد الخليفة عثمان بن عفان، لم تكن أسباب الفتنة وبواعثها كما ظهرت في شكلها البسيط، ترجع لغضب جماعة من الركب من تصرفات الخليفة أو عماله على الولايات، بل تعود إلى تغيرات اجتماعية عميقة ظلت تعمل في صمت وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على الشكل العنيف المتفجر في النصف الثاني من خلافة عثمان رضي الله عنه، وبلغت أوجها في الثورة التي أدت إلى استشهاده ولم تنتهي بقتله، بل ظلت تأثيراتها وظلالها على الحياة الإسلامية في الفترات الموالية، وبذلك يمكن ذكر بعض الأحداث التي ساهمت في التأسيس للفتنة:

  • تطور المجتمع الإسلامي؛
  • تطور طبيعة الدولة الإسلامية الناشئة؛
  • انتشار الصحابة في الأمصار؛
  • نمو دور القبائل العربية؛
  • دور العصبية القبلية وتأثيرها على النظم الاجتماعية؛
  • رواسب الجاهلية داخل المجتمع الإسلامي؛

الحركة السبئية:

أخذ بعض اليهود يتحينون الفرصة للظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام، على رأسهم عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء، إذ أن هناك أجواء للفتنة مهدت له وعوامل أخرى ساعدته، و ادعاءات افتعلها من يهوديته الحاقدة وروج لها في المجتمع الإسلامي، بغية النيل من وحدته وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فقد جاء بمقدمات صادقة وبنى عليها مبادئ فاسدة، راجت لدى السذج والغلا، حتى اجتمعوا عليه، لينتقل إلى هدفه المرسوم، هو خروج الناس على الخليفة عثمان، وذلك يتضح بقوله "وهذا وصي رسول الله فانهضوا في هذا الأمر، فحركوا، وأبدوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، وبث دعاته".

وتصديق الناس لدعواه يفيد إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي، حيث جعل أحد الصحابة مهضوم الحق هو علي والثاني مغتصبا هو عثمان، لتكون بذلك الطائفة السبئية عاملا من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل عثمان بن عفان. كما كان لخصال الخليفة عثمان دور في تسارع الأحداث، بحيث كان حياء عثمان الشهير مصحوبا بميل واضح نحو الرفض وكراهية التشديد على الناس، وإن كان هذا مفيدا للنفوس السوية المستقيمة فإن النفوس النكدة التي لم تهذب رغباتها وتطلعاتها بالدين، ولم تؤدب سلوكياتها على ضوء الشريعة هي تعده ضعفا وقلة خبرة.

بداية الفتنة ومراحلها:

تجمع المتآمرون على اختلاف نفوسهم ودناءة قدرتهم، فأحسنوا استغلال بواعث الفتنة في المجتمع وحركوها، وقادوا حملة التشويه والتضليل حول الخليفة وولاته، حتى بدأت تظهر بوادرها اولا:

تمرد الأمصار على الولاة، بحيث تركزت المعارضة في البصرة والكوفة ومصر ونظمت صفوفها سرا، وأطلقت الشائعات ونشط المتآمرون ضد عثمان وعماله (30 - 34 هــ) حتى بلغ صداها المدينة عاصمة الخلافة ولم يأذن الخليفة لعماله بقمع المعارضة وإنما كفل لهم حقوقهم واكتفى بنفي قادتهم، فاستغلوا بذلك سماحة عثمان وتجرؤوا عليه وعلى عماله.

ثم بعد ذلك بعث الخليفة لجان التقصي إلى الأمصار لإطلاعه عن حقيقة الأمر محاولا استيعاب الفتنة وإخماد نارها.

وفي هذا الصدد عمد الخليفة إلى مشاورة عماله وإشارته إلى منع التنكيل بقادة المعارضة، وتكليفه كل عامل بناحيته ، محاولا تسكين الأوضاع وعودة الأحوال لطبيعتها. استمرت المعارضة على موقفهم بذريعة إقامة الحجة على الخليفة ورفضه عزل عماله، وتمكنوا من خلع بعض الولاة، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عبد الله بن عامر.. فكان ذلك إعلان عن الزحف الأول على المدينة، بما أنهم استهدفوا الخليفة، فدخلوا المدينة وثارت الفتنة حين نسب المتآمرون على الخليفة كتابا يأمر فيه بقتل المتآمرين عليه، وضربوا عليه الحصار وعرضوا عليه مطالبهم، لكن الخليفة لم يرضخ لهم، على الرغم مما لقيه من إيذاء، فشدد البغاة زعماء الفتنة الحصار وخشوا أن تدور عليهم الدائرة، ولم يجدوا مخرجا مما هم فيه إلا تنفيذ جريمتهم النكراء، فكان استشهاد عثمان رضي الله عنه، فقتلت هذه النفس الزكية ظلما وعدوانا في 19 ذي الحجة 44 هــ.

خلاصة

كان مقتل عثمان بن عفان واقعا تاريخيا مأساويا، لأنه كان ضاغطا على التاريخ السياسي طيلة قرنين أو ثلاثة، وتسبب في انشقاقات مذهبية عميقة من واقع انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، وأطلق نزاعات بالغة الخطورة من حروب أهلية وعنف فتاك داخل الأمة الإسلامية.

تعليقات