تقديم:
تفيض المصادر التاريخية بذكر حالات التفاعل الإنساني المتكررة بين المسلمين والصليبيين، وإن كان الأغلب سرد حالة الحرب والتفاعل العسكري بين الطرفين خلال قرنين من الزمان، ولكن هذا الذكر لم يوصلنا إلى مدى التأثير والتأثر بالآخر بقرنين من الزمان، عاشتهما العناصر السكانية المختلفة على الأرض الشامية، فمما لا شك فيه أن حقب السلم قد تجاوزت لحظات الحرب بكثير في مراحل هذه الحقب الزمنية؛ فحدث تعايش وتقارب وحوار وتفاهم وتعاون بينهما، وكان هناك صلات وتواصل بين الأطراف المتنازعة حتى عجز الطرفان عن تمييز أنفسهما أحيانا عن الآخر المعادي في بعض المواقف، وخاصة العسكرية منها على حد رواية بعض المصادر، فيذكر أن الأيوبيين قد استعانوا بالصوفية والرهبان كعيون لهم عند الطرف الآخر، دون تمييز لهم من قبل الجند الصليبي وكان هذا الاحتكاك مدعاة لذلك التفاعل والأخذ عن الآخر، وربما تمثل التوجه الحضاري بغلبة حضارة طرف على حساب طرف آخر خلال هذا التفاعل السلمي الإنساني، وربما لم تكن الحرب هي الحل الحاسم في غلبة طرف على طرف آخر، فيقول جيوشه بعد، صلاح الدين الأيوبي مخاطبا تحريره مدينة القدس سنة 583 هـ / 1187م: "لا تظنوا أني قد فتحت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل" وترك هذا للعيان في هذه الثقافة، لا زال ماثلاً كله أثرا في الأكثر فراغا يوميات أفرادها من عادات وتقاليد وقيم مادية وروحية عديدة أثرت في معتقدهم ومبادئهم، فيقول المؤرخ الإفرنجي المعاصر فوشيه الشارتر ي: "نحن كنا غربيين وأصبحنا الآن شرقيين بمعنى الكلمة" من هنا يأتي هذا العرض، ليجيب على إشكالية الأدوار الإيجابية التي لعبتها الحروب الصليبية، في إطار ما عرف بالتلاقح الحضاري؛ وطبعا هي فرصة لنتعرف على ماهية الحروب الصليبية ودلالاتها، كما سنتعرف أيضا من خلالها على السياق العام السائد في أوروبا وأجزاء من العالم الإسلامي قبل بداية هذه الحروب، كما أننا سنرصد الخلفيات والأسباب والدوافع وراء نشوبها وسنتتبع كرونولوجية ومحطات الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي لنستخلص أخير أهم نتائجها وانعكاساتها على العالم الإسلامي والأوربي.
إضاءة مفاهيمية في دلالات الحروب الصليبية وحملاتها
الحركة الصليبية:
يقصد بها الحركة الأوروبية التوسعية الاستيطانية الأولى للعالم الإسلامي التي تجسدت في شكل الحروب الصليبية.
الحروب الصليبية:
تعني الحملات والحروب العسكرية التي قامت بها أوروبا في الفترة (1095 - 1291م) ضد العالم الإسلامي كنتيجة للحركة الصليبية.
الحملات الصليبية:
تدل على مجمل الحملات الثمان التي كانت أهم مظهر من مظاهر الحروب الصليبية خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.
سمي الصليبيون بهذا الاسم، لأنهم نقشوا على صدورهم علامة الصليب. وفي النصوص العربية المعاصرة لتلك الأحداث كابن الأثير الجزري في كتابه الكامل في التاريخ، وأبى الفداء في كتابه المختصر في أخبار البشر سموا بالفرنجة أو الإفرنج أو الروم وسميت الحملات الصليبية بحروب الفرنجة. أما في الغرب فقد سمي الصليبيون بتسميات متعددة كمؤمني القديس بطرس أو جنود المسيح، ورأى من كان مندفعا بدافع الدين من الصليبيين أنفسهم على أنهم حجاج، واستخدم اسم "الحجاج المسلحين لوصفهم في إشارة إلى أن الحجيج لا يحمل السلاح في العادة. وكان الصليبيون ينذرون أو يقسمون أن يصلوا إلى القدس ويحصلوا على صليب من قماش يخاط إلى ملابسهم، وأصبح أخذ هذا الصليب إشارة إلى مجمل الرحلة التي يقوم بها كل صليبي.
شخصيات بصمت تاريخ الحروب الصليبية
البابا أوربان الثاني (1042 – 29 يوليو 1099م) فرنسي انتخب لمنصب البابوية في روما عام 1088م. كان أوربان إصلاحيا متشددا مثل من سبقوه من البابوات، حيث عقد سلسلة من المجالس لحفز الإصلاح الأخلاقي والتنظيمي للكنيسة. عقد أوربان عام 1095م، مجلسا حافلا في مدينة كليرمونت بفرنسا. وبالرغم مما أصدره هذا المجلس من قرارات إصلاحية مهمة، فإن أكثر ما يشتهر به هذا المجلس هو إطلاق الدعوة لما أصبح يُعرف فيما بعد بالحملة الصليبية الأولى.
عماد الدين زنكي:
عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب بن عبد الله، أبو المظفر الأتابك، الملك المنصور عماد الدين، قائد عسكري وحاكم مسلم، حكم أجزاء من بلاد الشام وحارب الصليبيين؛ هو أمير الموصل الذي تمكن من الصمود في وجه الصليبيين ومحاربتهم لمدة طويلة، وانتزع منهم إمارة "الرها" وبذلك فتح الطريق بين سوريا والعراق، وعندما علمت أوروبا بإنجازاته وانتصاراته، جهزت حملة صليبية كبرى عرفت بالحملة الصليبية الثانية، ومع ذلك فقد واصل جهاده وتوالت انتصاراته وبعد وفاته أعقبه في القيادة ابنه نور الدين.
نور الدين زنكي:
كان لا يقل عن أبيه في شيء بل كان يفوقه مقدرة، لذلك واصل الجهاد ضد الصليبيين وانتزع منهم بعضا لمناطق التي ساعدته فيما بعد عن فتح طريق بيت المقدس.
صلاح الدين الأيوبي:
هو الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي (532 - 589 هـ / 1138 - 1193م)، المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي قائد مسلم أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية. لما تولى صلاح الدين الأيوبي وزارة الفاطميين بمصر وضع نصب عينه لتحقيق هدفين هما:
القضاء على الخلافة الفاطمية، وتوحيد المسلمين تحت راية المذهب السني، ثم طرد الصليبيين، وهذا ما تحقق، إذ استطاع صلاح الدين القضاء على الخلافة الفاطمية التي استمرت 262 سنة، وذلك باعترافه بالخلافة للعباسيين واعتبر نفسه تابعا لها وقضى على الخليفة الفاطمي والمذهب الشيعي وأعاد للسنيين مكانتهم في مصر. قاد صلاح الدين عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر، وقد تمكن في نهاية المطاف من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة منكرة في معركة حطين الشهيرة.
السياق العام
بدأ الوجود الإسلامي في الأرض المقدسة الأولى مع الفتح الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، ولم يلحظ أي تدخل من هذا بكثير مع الحج إلى الأماكن المقدسة المسيحية أو من الأديرة والطوائف المسيحية في الأراضي المقدسة؛ كانت دول أوروبا الغربية أقل اهتمامًا بفقدان القدس، في العقود والقرون التي تلت ذلك، عن طريق غزوات المسلمين وعدائية أخرى من غير المسيحيين، مثل الفايكنغ، والسلاف، ومع ذلك، فإن نجاحات متزايدة على الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذيكي من طرف جيوش المسلمين وضع ضغوط على الكنيسة الشرقية .
من العوامل الأخرى التي ساهمت في هذا التغيير في المواقف الغربية ازاء الشرق حدثت في سنة 1009م ، عندما أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بتدمير كنيسة القيامة هناك اضطهادات أخرى تعرض لها المسيحيون المشرقيون في مصر، وبلاد الشام والعراق منذ عهد الخليفة العباسي التاسع المتوكل على الله الذي اضطهد عمومًا إلى جانب المسيحيين واليهود جميع من يخالفه في المذهب الشافعي. إضافة إلى بروز السلاجقة على الساحة وتوغلهم في الشام وما نتج عنه من انفلات أمني.
الوضع في منطقة الغرب
الإمبراطورية البيزنطية الأرثدوكسية
عانت من مظاهر التآكل البطيء والضعف الناجم عن الصراعات الداخلية (ثورة توماس الصقلبي) والصراعات الخارجية كالتهديد البلغاري والهزيمة أمام السلاجقة الأتراك في معركة "ملاذ كرد" سنة 1071م.
أوروبا الغربية الكاثوليكية
كانت منطقة جغرافية لم تتشكل على المستوى السياسي بالقياس مع العالم البيزنطي والإسلامي، كانت منطقة تعاني من التشرذم والضعف السياسي وساد فيها النظام الفيودالي.
أسباب الحروب الصليبية
شهدت أوروبا في الفترة المدروسة أزمات سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية وحضارية شاملة، لها حتى اضطرتها إلى البحث عن حلول لهذه الأزمات في الخارج فاصطنعت من العالم الإسلامي عدوا تحقق وحدتها وتماسكها في الداخل، مما أدى إلى نشوء الحركة الصليبية الأوروبية التي عبأت الجيوش وسيرت الحملات لغزو العالم الإسلامي.
أسباب دينية:
تمثلت في الصراعات الدينية الناتجة عن تطور الثقافة الدينية الصليبية على نحو مغاير لروح الديانة المسيحية الأصلية المتسامحة في الشرق. مما جعل أوروبا الصليبية تتحد حول هدف كسر شوكة الدين الإسلامي تحت مبرر تخليص مهد المسيح في بيت المقدس من قبضة المسلمين الذين صورتهم الكنيسة على أنهم متوحشون همجيون.
أسباب سياسية:
ترتبط بعزلة الامبراطور البيزنطي "اليكسيوس كومينوس" وخشيته على انهيار إمبراطوريته على اثر هجمات السلاجقة الأتراك واستغاثته بالبابا وملوك آروبا لينقذوه من العزلة التي أحدقت بها بسبب معاداته للمسلمين ولأروبا الكاثوليكية بتعصبه للمذهب الأرثودوكسي فاختار أخف الضررين وهو الانفتاح نحو العالم الكاثوليكي، واستعان بالبابا وبملوك أروبا لينقذوه من السلاجقة، فيِمن بذلك طريق حجاجهم المسيحين إلى البقاع المقدسة بفلسطين. وجد بذلك البابا أوربان الثاني في استغاثته الفرصة السانحة لضرب المسلمين الأعداء والبيزنطيين المتمردين عليه، وبذلك يثبت زعامته الدنيوية على رعاياه بعد أن نازعه عليه االأباطرة والملوك.
أما الملوك فقد رأوا في هذه الدعوة وسيلة للتخلص من النبلاء الذين يقاسمنهم النفوذ، وذلك بإرسالهم إلى ميدان الشرق، كما أن النبلاء وجدوا فيها سانحتهم لإظهار فروسيتهم وتحقيق أحلامهم في تأسيس إمارات لهم لا يدينون فيها بالتبعية للملك.
أسباب اقتصادية
تتمثل في الصراعات الاقتصادية الناتجة عن تطلع االفئات والشرائح والطبقات الأوروبية نحو حياة اقتصادية أفضل عجزت ظروف أوروبا الاقتصادية المتردية في ذلك الحين عن تحقيقها، مما جعل أوروبا تتجه بأنظارها نحو الثروات الوفيرة في البلاد الإسلامية، فاتحدت حول هدف: السيطرة على طرق السلع والصناعات وحرف، التجارة الدولية البرية والبحرية التي كان يتحكم بها العرب المسلمون، حتى تحل بذلك أزماتها الاقتصادية المتفاقمة في الداخل على حساب الخارج.
نذكر على سبيل المثال؛ أزمة التي نتج عنها 1094م موسم زراعي شحيح، بالإضافة إلى كساد تجارة المدن الإيطالية بسبب حصار المسلمين.
أسباب اجتماعية
المتمثلة في الصراعات الاجتماعية الناتجة عن نمو الإقطاع وسيطرته على الموارد الشحيحة على حساب الأغلبية المتزايدة من السكان، وبداية ظهور البورجوازية الأوروبية المعادية للإقطاع والمتطلعة إلى موارد جديدة، كل هذا لغرض حل أزماتها الاجتماعية والسكانية المتفاقمة في الداخل على حساب الخارج.
فالبابوية بلورتها من خلال صراعها مع الملوك وكانت تهدف إلى سيادة مطلقة على العالم المسيحي، أما النبلاء فأرادوا من هذه الحروب توسيع سلطانهم وأملاكهم، في حين أن التجار البورجوازية الناشئة رأتها فرصة سانحة للتحكم في التجارة.
أسباب حضارية
المتمثلة في شعورها بالتحدي أمام تفوق الحضارة العربية الإسلامية آنذاك وتأثيراتها العميقة في الأوروبيين من خلال مراكزها الحضارية المختلفة في شرق أوروبا وصقلية، وإيطاليا في جنوب أوروبا والأندلس في غرب أوروبا، مما جعل أوروبا الصليبية تشعر بضرورة الاستجابة لذلك التحدي وتتحد حول هدف: السيطرة على مراكز الحضارة العربية الإسلامية، والاستيلاء على أرصدتها الحضارية من مكتبات وعلوم وفنون وصناعات وحرف...
انطلاقا من كل ما سبق، يمكن القول أن من أهم الاسباب التي أدت إلى قيام الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، تكمن في رغبة الأوربيين في الاستحواذ على الطرق التجارية والسيطرة على ثروات العالم الإسلامي، ودعم الإمبراطورية البيزنطية.
حملات الحروب الصليبية:
انتهزت القيادة الأوروبية الصليبية ملوك، أمراء، فرسان، وإقطاع وفي مقدمتهم البابا إيربان الثاني عوامل الضعف التي أخدت تدب في المشرق، وضعف الخلافة ببغداد، وانقسام الولايات الإسلامية فيما بينها وتحولها إلى دويلات تنازع بعضها وتتنافس على مركز الخلافة، الأمر الذي شجع القيادات الأوروبية على حشد قواها وتوحيد الصفوف والإعداد لحملات عدائية على العالم الإسلامي، وبالفعل تأتى ذلك وانطلقت أولى الحملات عام 1095م بإ علان البابا (لقائد المسيحي لأروبا آنذاك) بدء الحروب الصليبية من مدينة كليرمونت الفرنسية.
نتائج حملات الحروب الصليبية
عانى المشرق من حملات الحروب الصليبية المتسربة برداء الدين، ومن أهم النتائج المترتبة عن الحروب الصليبية، نذكر النتائج التالية:
على العالم العربي الإسلامي
- احتلال مناطق إسلامية وإقامة ممالك مؤقتة: فعلى الرغم من أن حملات الحروب الصليبية قد منيت أخيرا بالاندحار، إلا أنها كانت قد نجحت في إقامة ممالك مؤقتة في بيت المقدس لعقود من الزمن، واحتلت مناطق واسعة من المشرق خصوصا في فلسطين وما حولها؛
- اهدار الموارد والإمكانيات العربية الإسلامية: إما بنهبها مباشرة من قبل الصليبيين أو في خدمة المجهود الحربي الذي قام به العرب (مسلمين ومسيحيين) في الدفاع ضد الهجمات الصليبية التي استمرت أحداثها فوق الأرض الإسلامية في الشام لمدة قرنين من الزمان وفي الأندلس لمدة قرن آخر؛
- ظهور الدولة العسكرية (شبه الإقطاعية) في العالم العربي الإسلامي: فعندما عجز الحكام المدنيون في العالم العربي الإسلامي )من خلفاء وأمراء( عن حماية العالم الإسلامي، برز إلى الساحة الحكام العسكريون كرد فعل للحروب الصليبية، الأمر الذي أدى إلى القضاء على الدولة المدنية الإسلامية؛
- اختفاء المجتمع المدني العربي الإسلامي: فرغم نجاح الدولة العسكرية )شبه الإقطاعية( في ضرب الوجود الصليبي في عهد القادة العسكريين المستنيرين مثل القائد الشهير )صلاح الدين الأيوبي (والقائد الشهير (السلطان قطز المملوكي)، إلا أن الصفة المدنية للدولة الإسلامية اختفت تدريجيا واختفت معها تدريجيا أسس المجتمع المدني العربي الإسلامي؛
- تدهور النظام السياس ي في العالم الإسلامي: فبعد أن نجحت الدولة العسكرية في طرد الصليبيين وانتهاء دور القادة العسكريين المستنيرين (أمثال صلاح الدين وقطز)، شاع التسلط على الشعوب الإسلامية ودخلت المنطقة مرحلة التدهور السياسي الحاد منذ القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)؛
- توقف نمو الحضارة الإسلامية: فقد كانت الحضارة الإسلامية هي الطرف الذي وقع عليه عدوان الحروب الصليبية، فدفع أبناؤها الثمن من رفاهيتهم وتقدمهم ونموهم الحضاري، وتفرغوا للدفاع عن بلدانهم ضد الهجمات الصليبية. وكانت الحروب الصليبية من المنعطفات التاريخية الهامة في تاريخ الغرب الأوروبي والعالم الإسلامي على السواء، ولا تزال الآثار التاريخية السلبية للحروب الصليبية تحكم توجهات بعض رجال السياسة والمفكرين في العالم الأوروبي الأمريكي في تعاملهم مع المسلمين حتى اليوم.
على العالم الأوروبي:
استفادت أوروبا من نتائج الحروب الصليبية وحققت بعض أهدافها الداخلية، ومن أهم النتائج الإيجابية للحروب الصليبية التي استفادت منها أوروبا، نذكر النتائج التالية:
- إضعاف النظام الإقطاعي ونشوء العلاقات البورجوازية الرأسمالية: فقد ضعفت قوة الألقاب الاقطاعية، وتطورت حرية الملكية والامتلاك، وازدادت حركة التجارة والاتصال بين الشرق والغرب، وتدعمت سلطة الملوك المركزية، وخفتت سلطة الكنيسة والبابوية، مما مهد لنشوء العلاقات الرأسمالية الأوروبية فيما بعد؛
- ارتفاع شأن فرنسا وإسبانيا: حيث ارتفع شأن فرنسا نتيجة لدورها الرئيسي في الحروب الصليبية على المشرق، وارتفع شأن إسبانيا نتيجة لنجاحها في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، فما إن جاء القرن الثالث عشر الميلادي حتى كانت فرنسا أكبر دولة في أوروبا، وما إن جاء القرن الخامس عشر الميلادي حتى كانت إسبانيا تفكر في الكشوف الجغرافية بهدف الحصول على أقاليم جغرافية لإمبراطوريتها الاستعمارية الجديدة.
- استفادة أوروبا من الحضارة الإسلامية: من خلال نقل وترجمة الكتب والعلوم والمعارف المختلفة، واقتباس فنون العمارة والزراعة والصناعة والتجارة، وتوظيف الصناعات الجغرافية مثل صناعة السفن والبوصلة والاسطرلاب والميزان والساعة وآلات قياس أبعاد وأحجام الكواكب كما انتقلت أشياء بالغة الأهمية لأوروبا عبر الحروب الصليبية مثل السكر والليمون والبطيخ والقطن والحرير الموصلي والأرجوان والمساحيق والمرايا والمسابح.
على العموم، من بين ما أسفرت عنه هذه الحملات هو تجربة سياسية فريدة من نوعها تمثلت في تأسيس مجموعة من الإمارات من طرف الصليبيين على أرض الشرق كإمارات: الرها، انطاكية، طرابلس والقدس.
جوانب إيجابية للحروب الصليبية
كانت الحروب الصليبية فرصة لتعميق المعرفة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وإن ظلت صورة الصليبيين مبهمة رغم بقائهم بالشام نحو 200 عام بسبب اهتمام بعض المؤرخين المسلمين بالجوانب العسكرية لا المجتمعية.
في هذا الصدد يقول إبراهيم القادري الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة المولى إسماعيل بمكناس: "إن الحروب التي تمخض عنها استقرار الصليبيين في الديار الشامية وفرت للمسلمين فرصة أكبر لتكوين صورة واضحة عن الطرف الآخر الذي أتيح له أن يتعرف إلى حد ما على المسلمين حيث استمرت بين الطرفين صيغة من التعايش بسبب التجارة.
وقال القادري إنه رغم نبرة العداء والتحامل في كتابات كل طرف عن الآخر فإن حبل الصداقة والتعايش بين الصليبيين والمسلمين لم ينقطع بالمرة. إذ لعبت التجارة دورا أساسيا في هذا الاتجاه. المراكب التجارية القادمة من أوروبا استمرت في الوفود على الموانئ الإسلامية رغم تأجج نار الحروب.
وأشار إلى دهشة الرحالة الشهير ابن جبير الذي زار مصر في عصر صلاح الدين الأيوبي (1138 – 1193م) حيث كان "أكثر ما أثار اندهاشه وجود حركة تجارية دائمة رغم المعارك المستعرة بين المسلمين والصليبيين.
الاختلاط بين المسلمين والإفرنج وتقاسم شؤون الحياة اليومية والتزاوج الذي حدث بين الجانبين رغم العداوة السياسية كل ذلك زاد من توطيد العلاقات بينهما.
انتشرت في الشرق اللغة الفرنسية لكون غلبة السمة الفرنسية على الحملات الصليبية، ونفس الشيء بالنسبة للغة العربية التي دخلت بعض مرادفاتها اللغات اللاتينية إذ لا تزال تتداول إلى اليوم...
توافرت للفرنجة المقيمين في بلدان المسلمين أو عن طريق احتكاكهم بالمسلمين الذين آثروا البقاء تحت حكم الممالك اللاتينية أو العائدين منها إلى أوروبا أدت إلى توسيع أفق التفكير الديني لديهم، فخرج هدفهم الديني الأول وهو حافز الاهتمام بالآخرة والخلاص عن طريق الجهاد لتحرير الأماكن المسيحية المقدسة عن مساره إلى التكيف مع حياة مدنية علمانية يسرها لهم الاتصال بديانة أخرى هي الإسلام. كما خففت من تعصبهم وعقيدتهم في احتكار الحقيقة، وقد تبينوا أنه من الممكن العيش في مجتمع تعددي، وأن الأحادية ليست المثال وحده.
نقل الفرنجة إلى أوروبا نباتات غير معروفة لديهم، وصناعات لم يعرفوها أو لم يتقنوها، وأنماطا منهية لم يألفوها. من ذلك:
الحياة المرف كالقطن، والحرير الموصلي، والدمقس القز والليمون، والبطيخ، صبغةَ والسكر والذرة... كما نقلوا الألوان مثل الأرجوان، والليلق، والأحمر واللازورد. وهذه المنتجات والمصنوعات احتفظت أحيانا بلفظها العربي - محورا- حتى الآن.
وهكذا تعرفت أوروبا على مسابح الماء، والحمامات، وتبرج النساء بمهارة ووسائل هذا التبرج الدقيقة. فقد كان الفرنجة المقاتلون والمقيمون في الشرق فرسانا ومنصرفين إلى شؤون أخرى قد ابتنوا لهم القصور والدور، وزينوا جدرانها بالزخارف والستائر الحريرية المزركشة، وفرشوا أراضيها بالسجاجيد الإيرانيّة الرائعة، وكانت سقوفها وأراضيها مزينة بالفسيفساء، وروزناتها أو كواتها بقطع من الزجاج الأبيض.
أما ماعون دورهم فكان على غرار ما استحدثه المسلمون من أوان نحاسية وفضية، متفاوتة الأحجام لبراعة هؤلاء في فنون الطبخ واختلاطها بين فارسية وعربيّة وشعوب أخرى تساكنهم، وتفوقهم كذلك في إعداد أصناف الحلوى والمرطبات التي طارت شهرتها في الآفاق.
كذلك، تسرب زي ملابس النساء الشرقيّات إلى نساء الفرنجة فارتدين الملابس السابلة الفضفاضة الرقيقة المطرزة بالحرير والمزينة أحيانا بالرسوم...
خاتمة
بعد هذه الجولة المقتضبة بين ثنايا ما عرف بالحروب الصليبية على الشرق والتي يسرت لنا كتجربة تاريخية الاطلاع على جوانب ظليلة من الكوارث والمآسي التي أنزلتها تلك الحروب بالنسبة إلى الأروبيين وعلى مجتمعات المشرق، يتبين لنا أن البعد الثقافي يستحق وجدير بأن تدور حوله الأبحاث. فللحروب وجهان:
وجه قبيح يرسمه القتال وما يعقبه من مصائب جسدية ونفسية وروحية تستمر لحقب من الدهر وهو ما نصادفه كثيرا في اعتراضنا لهذا الموضوع، ووجه خفي مصقول يحكي التقاء عالمين مختلفين ما كانا ليتفاعلا ويتنافذا وينتجا حضارة جديدة ذات آثار إيجابية للإنسانية لولا الحروب.
فالاطلاع على ما عند الآخر، والتعرف إليه، خصما ثم إنسانا يشحذ العقل المطمئن الراكد، ويحرره من عقاله، ويثير العاطفة المستكينة ذات البعد الواحد، ويحفز الروح على ارتياد حميمية ما يخالفها لونا وعمقا وفكرا وتجليا وهذا ما وفرته لنا هذه الحروب أو بالأحرى هذا الصدام الذي كان بداية نابعا عن نزعة ومحرك عنيف ينبذ الآخر ويسعى إلى القضاء عليه والسيطرة على ما له، ليتحول فيما بعد إلى تلاقح حضاري وثقافي مناقض للفكرة الأولى.
بيبليوغرافيا:
- ابن جبير، رحلة ابن جبير، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1981؛
- بسام العسيلي، قادة الحروب الصليبية (المسلمون)، دار النفائس، الطبعة الأولى 2011؛
- السرجاني راغب، قصة الحروب الصليبية من البداية إلى عهد عماد الدين زنكي، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الثانية 2009؛
- فرحات محمد، ملخص تاريخ الحروب الصليبية، بدون طبعة؛
- فيكتور الكك، العلاقات الثقافية بين المسلمين والفرنج في العصور الوسطى، وجهات نظر، مجلة تفاهم، بدون طبعة؛
- قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة 149، الكويت، مايو 1990؛
- - الكتاب المدرسي، في رحاب الاجتماعيات السنة الأولى من التعليم الثانوي الاعدادي، مصادق عليه من لدن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، طبعة جديدة ومنقحة 2020؛
- محمود سعيد عمران، تاريخ الحروب الصليبية 1095 - 1291، دار المعرفة الجامعية، 2000؛
- موسوعة ويكيبيديا.
- https://sahl.io/ye/lesson