تقديم عام:
يعتبر التاريخ علم من العلوم الاجتماعية، يهتم بدراسة الماضي البشري بأبعاده المختلفة باستحضار التفاعلات بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديمغرافي... قصد إعطاء معنى للحاضر وربما للمستقبل، وبما أن كل فرع من فروع المعرفة يتميز عن غيره بنهجه ووسائل تعبيره والمفاهيم المهيكلة له، فإن المعرفة التاريخية بدورها وباتفاق المؤرخين والديداكتيين لها نهج خاص، وتتأسس على مفاهيم مهيكلة لها، وهي الزمن والمجال والمجتمع، وهذه المفاهيم تشكل أبعادا لشبكة المعلومات العامة للتاريخ ويتوفق عليها الفهم في هذا الحقل المعرفي.
مقهوم الزمن:
تقترن بكلمة "تاريخ" مباشرة كلمة "ماضي"، وتوحيان بتصور معين للزمن، لذا ا يمكن الحديث عن التاريخ بدون الحديث عن الزمن، يعتبر هذا الأخير من أهم المفاهيم المهيكلة للمعرفة التاريخية، ومن أهم خصائص التاريخ، حيث يستعين به المؤرخ من أجل ضبط التواريخ والتعرف على مرحلة على مراحله وهيكلة الأحداث التاريخية، وأجمعت الدراسات السيكولوجية والسيكو بيداغوجية على أن الزمن مفهوم مركب وله أبعاد مختلفة نفسية ووجدانية وبيداغوجية وروحية، ويمكن أن نميز بيم مجموعة من الزمنة أهمها:
الزمن الفيزيائي: وهو عبارة عن مصدر لبعض اللحظات المجردة من معنى الحاضر، وبالتالي فالزمن يتميز بإمكانية استخراج الوحدات القياسية؛
الزمن النفسي: متعلق بالتجربة الشخصية، فالزمن هنا غير متجانس، لأن لكل شخص وعي مختلف في تصريف الزمن حسب الظروف والعمر؛
الزمن الاجتماعي: هذا الزمن الماضي الذي يتم بناءه واستحضاره عن طريق المؤرخ؛
هذا الأخير (الزمن التاريخي) اختلفت تأويلات المؤرخين له، فعبد الله العروي يقول "أن تاريخ حدث ما هو الجواب على سؤال يتضمن كلمة متى؟"؛
أما التباري النباري في كتابه التأهيل المهني فيشير إلى أن "التاريخ يركز على دراسة الحدث البشري في الماضي باعتباره زمنا قد ولى"؛
في حين تناول شاكر مصطفى الزمن التاريخي في كتابه "التاريخ هل هو علم" بأنه "دفق مستمر حي وديمومة متصلة الحركة، والإنسان وحده بين الكائنات الذي يعي الزمان والديمومة، الديمومة هي المقولة الأولى في الزمان التاريخي، والثانية هي التغير المستمر، فالإنسان هو الوحيد بين الكائنات الذي يشعر بالتغير ويسجله ويعطي الحياة البشرية بذلك وحدتها ما بين الأمس والغد، أما المقولة الثالثة فهي التنوع، فالحياة الإنسانية تزداد غنى وتنوعا وتعقيدا وتركيبا بالتأثير والتأثر.
أما الأستاذ شكير حسن فقد ربط الزمن التاريخي بالمغامرة البشرية أو بالتجارب الجماعية في صيرورتها وعمقها، ويسائل الزمن التاريخي الحدث وما تركه من أثر بغية تحديد إذا أمكن سبب هذا الحدث، ودلالته ومكانته عبر تعاقب السنين.
وتنطوي تحت مفهوم الزمن مجموعة من المفاهيم الفرعية أهمها مفهوم التطور والذي يعتبر مفهوما مركزيا ضمن المفاهيم المهيكلة للخطاب التاريخي، وترتبط به باقي المفاهيم الدالة على البعد الزمني، كمفهوم الماضي / الحاضر / المستقيل، ومفهوم الاستمرارية والقطيعة.
ولقياس هذه المفاهيم وقياس الزمن التاريخي، تستخدم بعض تقنيات العلوم المساعدة منها:
الكرونولوجيا: هي بمثابة علم تأريخ الحوادث وفقا لتسلسل وقوعها، وتقسيم الزمن إلى فترات وتحديد التواريخ الدقيقة للأحداث، والكرونولوجيا مهمة للمؤرخ، فهي تقنية تحاول أن تجيب عن مسألة التأريخ، والفائدة منها أنها تساعد على تركيب الأحداث، وتمكن من التفكير في هذه الأحداث للخروج بخلاصات واستنتاجات؛
التحقيب: عملية منتجة للمعرفة التاريخية بالإضافة إلى أنها أداة لتحديد مجال هذه المعرفة زمنيا ومكانيا، ويعتبر من بين الوسائل الضرورية لتأطير وتنظيم أحداث الماضي بهدف الوقوف على معانيها ومدلولاتها التاريخية والحقيقية، ويساعد على تقريب التاريخ من أفهام الناس، وهناك تحفيزات مختلفة من أبروها:
التحقيب الثلاثي: وهو تحقيب أوربي يقسم التاريخ إلى قديم ووسيط وحديث؛
التحقيب الخماسي: وهو تحقيب ماركسي يقسم تاريخ الإنسانية إلى مشاعية وعبودية وإقطاعية ورأسمالية ثم اشتراكية؛
التحقيب الأسري: وهو تحقيب إسلامي يعتمد على توالي الأسر والسلالات الحاكمة؛
الفترة أو الحقيبة أو العصر: تعتبر غير دقيقة، وتظل تقريبية مثل عصر النهضة وعصر الأنوار؛
الجيل: وحدة تقريبية بدورها عادة تتراوح بين 30 و40 سنة.
مفهوم المجال:
المجال عبارة عن حيز جغرافي له مفهوم واسع يشتمل فكرة الاحتواء، سواء كان الاحتواء لمكان أو لأشخاص ما.
أما المجال كمفهوم مهيكل للخطاب التاريخي، أو كما يسميه بعض الباحثين "التوطين" فلخص عبد الله العروي وظيفته في تحديد مكان الحدث التاريخي، بالجواب عن سؤال: أين؟
أما الباحثة خديجة واهمي فقد عرفت المجال بأنه "مجال تصرف البشر عبر التاريخ، وهو مجال مادي مرتبط بمفهوم الطبيعة، وبمجال انتفع به البشر عبر التاريخ وتعاملوا معه"؛
في حين تأتي أهمية المجال التاريخي حسب المؤرخ الفرنسي روزنبرجر برنارد من الدور الذي لعبته في التاريخ البشري منذ عصور، فهو دائما موضوع صراع بين الجماعات البشرية والتشكيلات القبلية.
ولإبراز أهم مستويات المجال يمكن الحديث عن ثلاثة سلاليم أساسية وهي سلم الملاحظة وسلم التوطين ثم سلم التأويل:
سلم الملاحظة: ويمكن التمييز فيه بين ماهو محلي وما هو وطني، وما هو حضاريا أو عالميا؛
سلم التوطين أو التحديد: لأن كل الأحداث التاريخية موطنه ومحدده، ليس في الزمان فحسب بل في المجال كذلك، وعملية تحديد الأماكن تتم عندما تغيب الإشارات الجغرافية والوثائق، أو عندما تثير المعطيات الطبوغرافية صعوبات في التفسير؛
سلم التفسير والتأويل: وهو سلم يدلنا على تفسير العلاقة بين الإنسان وحيطه أو بيئته.
المجتمع (الحدث):
إن المحتمع كمفهوم مهيكل للخطاب التاريخي مرتبط بشكل وطيد بمفهومي الزمن والمجال، وذلك لأنه لا يمكننا الحديث عن مجتمع إلا داخل مجال جغرافي وزمن تاريخي.
وورد في كتاب كفاية التأهيل المهني للدكتور التباري النباري أن المجتمع "يتضمن سلوكات وانتاجات البشر في الماضي، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، والتعامل معه أ يمع مفهوم المجتمع يقتضي حسب خديجة واهمي "فهم الأفراد والجماعات المكونة للمجتمعات التي عاشت في مجال ما في الماضي، واستيعاب دوافعها وأحكامها ومبادئها وعاداتها من خلال معرفة شروط حياتها الاقتصادية (شروط العيش والعمل) والسياسة (بنية الأمم والدول) والثقافية (عادات وتقاليد وعبادات).
وقد بدأ الاهتمام بالحدث التاريخي (المجتمع) كعنصر مهم في الكتابة التاريخية منذ أواخر القرن 19م، حيث ظهرت مجموعة من المدارس أو التيارات التاريخية التي عالجت الحدث التاريخي من زوايا محتلفة، فالمدرسة الوضعانية حاولت إبعاد الطابع الفلسفي عن التاريخ وجعلته شبيها بالعلوم التجريبية، حيث ركزت على الوثيقة كعنصر أساسي في معالجة الأحداث التاريخية درست الحدث التاريخي من وجهة نظر اقتصادية، أي أن القوة الاقتصادية والتراتبية الاجتماعية هي التي تؤثر على الحدث التاريخي مما يجعل المؤرخ تغيب عنه مجموعة من الحقائق، بينما اهتمت مدرسة الحوليات بالحدث التاريخي على ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي... أي أنها وسعت مفهوم الحدث التاريخي عكس المدرسة الوضعانية التي جعلت العامل السياسي يهيمن على العوامل الأخرى في تفسير الحدث التاريخي، كما سعت مدرسة الحوليات إلى تقريب التاريخ من سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية.
والمؤرخ يعتمد في شرحه لمتغيرات المجتمع على عنصرين:
الاهتمام بالغير: لفهم المجتمعات البشرية لابد من معرفة كيف تتغير؟ وبماذا تختلف؟ والمؤرخ يرصد التغير من خلال تحليل الاختلافات، التي تظهر أشكال القطيعة والاستمرارية حيث تفسر تقلب النظم الاجتماعية في الزمن.
الاهتمام بالجماعة: يعتبر التاريخ من العلوم الاجتماعية، فهو لا يهتم بالفرد كفرد، ولكن بالأفراد في المجتمع، ولهذا فالمؤرخ يتطرق إلى الكيانات الجماعية، دون الإشارة الصريحة إلى مكوناتها الفردية، ويتناول الأفراد في سياق مجتمع محدد لبيئتها الاجتماعية، حيث يدرس الأفكار والمشاعر والتصرفات ولا يدرس الأفراد منعزلين، لأنهم يعملون في سياق مجتمع وتحت تأثيره.
خاتمة:
ختاما، يتأسس الخطاب التاريخي على ثلاثة مفاهيم اساسية، مفهوم الزمن والذي يدل على تاريخ حدوث الحدث التاريخي، ثم مفهوم المجال باعتباره ذلك الحيز الذي وقعت فيه الأحداث، وأخيرا مفهوم المجال باعتباره ذلك الحيز الجغرافي الذي وقعت فيه هذه الأحداث، وأخيرا مفهوم المجتمع ويقصد به كل سلوكات وانتاجات الإنسان في الماضي، وغياب أحد هذه المفاهيم (الزمن، المجال، المجتمع) قد يخرج النص التاريخي عن طبيعته وقد يعطيه تأويلات أخرى، فهي التي تعطي النص التاريخي ذلك الطابع الذي يميزه عن باقي النصوص الأدبية والعلمية الأخرى، وهي التي تساهم مع النهج التاريخي ووسائل التعبير التاريخية لإعطاء الطابع العلمي لمادة التاريخ.