تعتبر البوليس Polis الإطار الحقيقي الذي نمت فيه وتطورت الحضارة الإغريقية. وهي من أكثر المظاهر أصالة في الحضارة الإغريقية. وقد حاول المؤرخون النفوذ إلى حقيقة البوليس كما كان يتصورها الإغريق أنفسهم، واختلفوا أحيانا في إعطاء تعريف كامل لها، وفي تفسير ظهورها في بلاد الإغريق.
وفي هذا السياق يتم التمييز بين سؤالين:
- سؤال عام، كيف ظهرت الدولة عند الإغريق؟
- وسؤال خاص، ما هي المميزات الرئيسة للبوليس؟
لم يكن حكم الملك مطلقا، حيث برزت أرستقراطية عسكرية، وصارت تلعب دورا مهما. ومع مرور الوقت تعاظمت الفوارق في ملكية الأرض والغنائم الحربية، وتعاظم معها العنصر الأرستقراطي داخل المجتمع القديم، الذي كان يعيش في نوع من الديمقراطية العسكرية البدائية؛ تتجلى في نوع من التعايش الموجود بين 3 هيئات:
مجلس البولي Boule: وهو يمثل الهيأة الدائمة للسلطة. ربما كان في البداية يتألف من زعماء العشائر. ثم صار شيئا فشيئا في يد العناصر الأرستقراطية، وأصبح عبارة عن مجلس الشيوخ.
الجمعية الشعبية Agora: تتكون من مجموع المواطنين، لكنها لا تنعقد سوى بطلب من المجلس لحل القضايا الهامة، وهي التي تملك السلطة العليا بوصفها عبارة عن الشعب حاملا للسلاح. وكان اتخاذ القرار يتم برفع الأيدي أو الهتاف.
الباسيليوس Basileus: هو قبل كل شيء القائد العسكري، وفي الأشعار الهوميرية تستعمل الكلمة في صيغة الجمع أحيانا لتدل على زعماء العشائر مالكي الأراضي، وربما كان هذا هو المعنى الأصلي. لكن الكلمة غالبا ما تستعمل في صيغة المفرد لتطلق على زعيم، أو ملك، له 3 صلاحيات:
صلاحية دينية: إذ هو رئيس الكهنة ويقدم القرابين للآلهة؛
صلاحية قضائية: يقضي بين المتقاضين؛
صلاحية عسكرية: هو الذي يرأس الجيوش؛
وفي ظل التطور، اتجه نظام القبائل والعشائر نحو الانحلال والتفسخ: فالحق الأبوي، مع توريث الملكية للأولاد الذكور، كان من شأنه أن يسهل تراكم الثروات في العائلة، ويجعل من العائلة قوة ضد العشيرة. وكان من شأن الملكية العائلية أن تخلق الفوارق الطبقية داخل العشائر، وتؤدي إلى تقوية الأسر الأرستقراطية.
والى جانب هذا المعطى، أدى تقسيم العمل (زراعة، حرف، تجارة، ملاحة) بأعضاء بعض العشائر والقبائل إلى النزوح بصفة مؤقتة، أو دائمة، إلى مناطق قبائل أخرى، مما جعلهم غرباء في أماكن إقامتهم الجديدة.
هذا كله شوش العمل العادي لهيأة العشائر والقبائل؛ ومن ثم كان من اللازم إحداث إدارة مركزية في مكان ما، لتتولى ما أصبح من العسير على العشائر تسييره، عملية توحيد القبائل "ثسيوس" ففي أثينا مثلا، تنسب الروايات إلى 4 السابقة، بهدف تأسيس مركز مشترك يتجمع فيه الأعضاء، فنشأ بذلك حق المواطنة في منطقة "أتيكا" لكل السكان الأحرار، بغض النظر عن انتمائهم القبلي السابق.
وتنسب الروايات أيضا إلى " ثسيوس" عملية تقسيم الشعب إلى طبقات، بصرف النظر عن العشيرة أو القبيلة التي كان الأفراد ينتمون إليها سابقا؛ وهذه الطبقات هي:
طبقة الأوبطريون Eupatrides، حيث شكل أفرادها الأرستقراطية المالكة للعقار؛
طبقة الزراع، الذين يستغلون بسواعدهم الأرض التي يملكونها؛
ثم طبقة الحرفيين كطبقة أخيرة في أسفل الهرم الاجتماعي؛
يوضح هذا التصنيف ذو الخلفية الاقتصادية والاجتماعية أن تقسيم العمل بين الحرفيين والفلاحين ترسخ إلى حد أنه دفع التقسيم الاجتماعي السابق (عشائر وقبائل) نحو المرتبة الثانية وهكذا، أدى تفسخ العشيرة بالتدريج إلى ظهور جهاز حكم مركزي: أي أن التطور كان يسير في اتجاه تكوين الدولة وستتقوى هذه الدولة بالتدريج إلى أن يتم القضاء على نظام العشائر (القرابة الدموية)، ويبدأ تصنيف السكان حسب ثرواتهم ومكان الإقامة.
لا يستحق صفة المواطنة إلا الممتازون والمؤهلون أما مقاييس هذا الاستحقاق فهما الثروة والجاه والتي يمكن أن تتأتى من بطولات عسكرية أو عن طريق الإرث. وفي الحالة المعروفة لا بد أن ينحدر المواطن من أبوين ينتميان إلى نفس المدينة وبدون اعتبار ظروف الأم حيث يمكن للابن المنحدر من أب مواطن أن يتقلد هذا الامتياز وأن عدم مواطنة الأب الأجنبي أو العبد مبطلة لولوج الابن إلى هذا الامتياز، أما منح المواطنة كهدية فنادر جدا بالرغم من أنه حصل سنة 406 ق م بالنسبة للأجانب الذين قدموا خدمات في الحروب اليونانية. تتجسد صفة المواطن المدمج من خلال "الإحصاء" وهو ممارسة قديمة يتم التمييز انطلاقا منها بين مختلف أعضاء المدينة حسب انتماءاتهم العائلية، الطبقية ... الخ، ويمنحهم مكانة ما ضمن المدينة، هكذا يقيم الإحصاء تراتبية بداخل الجسم المدني. بجانب التراتبية اليونانية التي تميز بين حقوق مدنية وحقوق سياسية.
في هذا السياق يحق لنا ان نتساءل:
ما هي الأساليب المستخدمة لتحديد ما إذا كان شخص ما يمكن أن يكون مواطنا أم لا؟
الأساليب المستخدمة لتحديد ما إذا كان شخص ما يمكن أن يكون مواطنا أم لا يمكن أن تستند إلى الثروة، أو المشاركة السياسية، أو الفعالية العسكرية، أو إذا كان كلا الوالدين من مواطني بوليس.
الثروة
يتم تحديدها من خلال مقدار الضرائب التي يدفعها الفرد، فقد كانت المواطنة تشير في العصور الإغريقية إلى كل إنسان مدعو بثروته وجاهه إلى ممارسة سلطة سياسية وتسيير شؤوون المدينة.
الفعالية العسكرية:
نشأ الشعور الإغريقي بالمواطنة عن الضرورة العسكرية، حيث:
تطلب تشكيل عسكري رئيسي التماسك والالتزام من قبل كل جندي معين في تشكيل الكتائب.
كان جنود يصطفون كتفا بكتف في كتلة متماسكة، يحمي كل واحد منها الآخر.
إذا فشل مقاتل واحد في الحفاظ على موقعه، فإن التشكيل بأكمله يمكن أن ينهار.
كان الجنود الأفراد يتمتعون بالحماية بشكل عام شريطة أن تبقى الكتلة بأكملها معا.
استدعى هذا الأسلوب أعدادا كبيرة من الجنود، وفي بعض الأحيان يشمل معظم السكان الذكور البالغين في دولة المدينة، والذين قاموا بتزويد الأسلحة على نفقاتهم الخاصة.
المشاركة السياسية
ارتباط المشاركة السياسية بالفعالية العسكرية.
إذا كان كل رجل ملتزما بإرادة المجموعة، وإذا كان له رأي فيما إذا كان يجب على الدولة المدينة بأكملها أن تقاتل خصما ما، فإن الولاء في ساحة المعركة يكون أكثر ترجيحا. وهكذا ارتبطت المشاركة السياسية بالفعالية العسكرية.
مواطني بوليس
من الصعب إعطاء تفسير شامل للبوليس الإغريقية. لكن لا شك في أنها تطورت على مر القرون حتى اتخذت شكلها النهائي في العصر الكلاسيكي. ومن الأكيد أن هناك فوارق بين الدويلات، فعلى مستوى النظام السياسي، عاش بعضها تحت النظام الملكي أو الأرستقراطي أو حكم الأقلية أو حكم الطغاة، ومنها من بلغ النظام الديمقراطي ثم تراجع عنه.
ومع ذلك يمكن التمييز بين ما هو أساسي ومشترك بين الدويلات، منها:
أولا، صغر المساحة: حيث أن مساحة معظمها كانت لا تتعدى 1000 كلم مربع؛ ونتج عن صغر المساحة أن كان عدد المواطنين في الدويلة منخفضا، ببضعة آلاف فقط (أكبر تلك الدويلات أثينا، كان عدد المواطنين فيها لا يتعدى 30.000 عند بداية القرن 5 ق م). وقلة السكان كان من أهم العوامل المساعدة على ممارسة الديمقراطية مباشرة، اذ مكنت من مشاركة المواطنين مشاركة فعالة في تسيير شؤون دولتهم.
ثانيا، الاستقلال التام: فالدويلة مهما كان حجمها وعدد سكانها كانت متمسكة باستقلالها التام، لها قوانينها الخاصة ولها معبوداتها الخاصة التي تحميها وترعاها (مثلا إلهة أثينا عند الأثينيين).
ثالثا، شعور المواطنين بالانتماء إلى نفس المجموعة: هذا الشعور لا يأتي من ولاء الشخص إلى قائد أو ملك أو كاهن، وإنما إلى وجود تقاليد ومصالح مشتركة ومنظمة. ولهذا فإن قلب الدويلة النابض لم يكن القصر الملكي، وإنما الأغورا Agora التي صارت تطلق على الساحة العمومية التي تنعقد فيها التجمعات السياسية (وهي ساحة الفوروم في المدن الرومانية).
عموما، وتبعا للمميزات الرئيسية للبوليس، يظهر أنها تمثل قبل كل شيء إطارا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا متكاملا، وتجسد شعور المواطنين بوحدة مصالحهم ومعتقداتهم. ويتمثل هذا الشعور في ضرورة توفر البوليس على مركز تتجمع فيه المنشئات المدنية والدينية. وأهم هذه المنشئات:
الأغورا Agora التي يجتمع فيها المواطنون للمداولة وتبادل السلع.
القلعة أو الأكروبوليس Acropolis وهي المكان المرتفع المحصن في المركز، يلجأ إليه السكان وقت الخطر، وفيه معبد الإله الحامي للمدينة.
على العموم:
مهما كان نظام الحكم، كان المواطنون في البوليس الإغريقية يشاركون في تسيير شؤونهم بصورة أكثر مما كان موجودا في المدن الدول الشرقية القديمة مثل المدن السومرية؛ أي أن طابع الملكية الشرقية ذات الأصل الإلهي، لم يكن موجودا في الدويلات الإغريقية: فلم يكن البازيلوس Basileus الإغريقي منذ البداية حاكما مطلقا، وكان عليه أن يحسب الحساب للهيأة الأرستقراطية.
كما أن الصراعات الاجتماعية أدت تدريجيا إلى ظهور أنظمة ديمقراطية في عدة دويلات إغريقية، لكن تلك الديمقراطية لم تكن إلا لصالح المتمتعين بحق المواطنة. كما أن حكم الطغاة لم يكن في حد ذاته سوى ردة فعل الفئات الدنيا من المجتمع ضد تسلط النبلاء على جهاز الحكم؛ وكان عموما مرحلة انتقالية في القرن7 و6 ق م بين النظام الأرستقراطي والنظام الديمقراطي.
يجب إذن أن نفهم المواطنة من خلال فحصها في سياق دولة -مدينة، ومقاولة فهمها كما يفهمها أفراد من هذه المجتمعات. لذلك سنعمل على رصده ومقارنته بين كل من أثينا وإسبرطة.
مواطنة الدولة - المدينة
ساد هذا المفهوم في الحقبة الإغريقية، وتميز بتركيزه على قيم المشاركة السياسية والمساواة بين المواطنين على قاعدة المواطنة، غير أن هذا المفهوم من ناحية أخرى لم يكن يشمل بصفة المواطنة إلا الرجال الأحرار، بينما تم استبعاد العبيد والنساء والأطفال وكذلك الأجانب عن المدينة؛ مما جعله لا يشمل إلا فئة قليلة ممن يستحقون صفة المواطنة:
- كان للمواطنين مكانة أعلى من غير المواطنين، مثل النساء أو العبيد، على سبيل المثال.
- كان يعتقد أن النساء غير عقلانيات وغير قادرات على المشاركة السياسية، على الرغم من عدم موافقة قلة من الكتاب، وأبرزهم أفلاطون.
مهنة المواطن: الوظائف السياسية للمواطن
تشكل المساهمة في الحياة العمومية المظهر الأول لدور المواطن وتتجسد في المعمار نفسه للمدينة وهذا الفضاء العمومي كفضاءات التداول، حيث يساهم الشعب من خلالها في القضايا المشتركة، وهي تعكس صورة رعب يتداول قضاياه الخاصة بنفسه، ذلك أن الشكلية القانونية التي تتصدر تجمعات هذه الجموع المتشاورة فيما بينها تبعدها في الواقع عما يمثل الجوهر السياسي ذاته.
المواطن الجندي
تتعلق الوظيفة الأخرى التي لا تنفصل عن قانون أو وضعية المواطن بمهنة السلاح وتحددها المدينة الحربية لإسبرطة كوظيفة أساسية، وهذا الواجب هو جزء متمم لغريزة الحفاظ عل المدينة وقد لجأ النظام الإغريقي أكثر فأكثر إلى خدمات جيوش مرتزقة هذا القول له علاقة خصوصا بالتصور الإغريقي والروماني للشعوب الدخيلة.
المساهم/المكلف:
ليست ضريبة الدم هي المطلب الوحيد من المواطن ذلك أن المساهمة في تحمل الأعباء العمومية يشكل أيضا واجبا وطنيا ومع ذلك ففي الوقت الذي يكون المواطن/الجندي مجند باستمرار لا يكون المواطن المكلف مطلوبا إلا دوريا (وفي أوقات معلومة).
قديما كانت الضريبة غير مباشرة
رسوم على السلع على العقار أو حق المرور وهي العناصر الأساسية للضريبة فالمساهمات الإرادية هي بدورها محدودة في الزمان وفي الموضوع ولا تهتم مبدئيا إلا بتمويل الحرب وهي كذلك ممكنة السداد ذلك أن المكلف/المؤدي هو أيضا الجندي المجازى بالغنيمة التي توزع إثر الانتصار، فالضريبة ثقل بالأساس على الأقاليم والشعوب الخاضعة للمنتصرين.
مواطنون وغير مواطنين
إذا كانت المواطنة صالحة لتوحيد الجماعة فإنها صالحة لفردانتها بغية تمييز أعضاء المدينة من أولئك الذين ترفضهم فالمواطنة القديمة كانت تضم أكثر مما تقص ي فالذين هم موضوع إقصاء هم النساء والعبيد والأجانب:
النساء: يبرر عدم مشاركة المرأة في الحقل السياسي بوضعيتها (فهي قاصرة أبدية عكس الطفل الذكر) وهي "ما بين الطبيعة والمجتمع" ونفس الشيء بالنسبة "للمواطنة"، فالمنحدرة من أصل مواطني ليس لها حق الملكية.
العبيد: المواطن إنسان حر بالضرورة وليس "شيئا" يملك السيد مصيره، فتبعية العبد القانونية والاجتماعية والمادية تمنعه من ولوج المواطنة، كما أنه يجدر بنا التمييز بين شكلين من العبودية تعايشا منذ القديم ذلك أن المدن الإغريقية تعرف ممارسة العبودية القطيعية المشكلة من أسرى الحروب والمنهزمون الذين يتم شراؤهم وبيعهم بقرية، وبجانب هؤلاء العبيد يوجد شكل من أشكال العبودية الأكثر تدجينا ويتمثل في الخدم.
الأجنبي/الغريب
إن وضعية الأجنبي تشكلت بالأساس وفي نفس الوقت مع وضعية المواطن فإن تحديد "من هو" يؤدي تحت غياب سلطة التمييز إلى "من ليس هو"، ففي أثينا يشار إلى هذا الغريب بمصطلح الدخيل Meteque وهو يعني حسب الاشتقاق اللغوي "من يقطن مع"، وبما أنه إنسان حر فهو محمي من قبل قوانين المدينة لكنه لا يساهم في الحياة السياسية ولا يمكنه امتلاك أموال ثابتة.
اسبرطة، المجتمع والتطور السياسي
اقتضت الحاجة إلى وضع قوانين تضمن السيادة للمواطنين، وتكرس القوة العسكرية في التوجه الذي تبنته الدولة الإسبرطية لفرض وجودها والدفاع عن مصالحها. وضع نظام اسبرطي ارستقراطي؛ والغالب على الظن أن نظام اسبرطة فرضته الظروف السياسية، وصار سلوكا مترسخا في تاريخ الدولة؛ حيث كشف الواقع أن المجتمع الإسبرطي ظل مجتمعا عسكريا ارستقراطيا باستمرار:
في سن 30 يلحق الجندي، بالجيش، ويصبح عضوا في مجلس الشعب الأبيلا «apella» الذي يضم كل المواطنين الذي أكملوا تدريبهم العسكري، ويستمر الجندي في الخدمة العسكرية حتى سن 60 .
يشارك الرجال المنتسبون للفرقة طوال هذه الفترة في وجبات جماعية على نفقتهم بحكم الدستور، وحرم عليهم ارتداء المعادن النفيسة واستعمال النقود، والجميع متساوون في المظهر واللباس والسكن ...
كل فرد من المواطنين بحكم انه جندي، محرم عليه العمل؛ حيث كانت الدولة تمنح هؤلاء المواطنين قطعا أرضية متساوية يقوم بزراعتها الهيلوت مقابل سدس الإنتاج. ولم يكن مسموحا للمواطنين الإسبرطيين مغادرة المدينة سوى بإذن، ما يفيد بانغلاق المجتمع.
كان يتم الاحتفاظ بكل الأطفال الأصحاء جسديا من أبناء المواطنين، أي من الأرستقراطية، والتخلص من ذوي العاهات منذ الولادة، علما بأن إنجاب الذكور كان مفضلا على الإناث. يتربى الطفل في حضن الأم إلى غاية سن 7، حيث ينتهي دور الأسرة ويبدأ دور الدولة. فتأخذه الدولة وتتكفل بتربيته في المدارس العسكرية، حيث يتربى على قيم المواطنة، والنظام العسكري الصارم والقاسي، والإخلاص إلى المجموعة التي تشكل فرقته، والمدينة التي تمثل وطنه؛ مع الاعتياد على حياة الخشونة لتحمل المشاق، والانضباط للأوامر.
أثينا: منشئ مفهوم المواطنة
في البداية لم تكن للفرد شخصية مستقلة، وظل ينتمي إلى المجموعة التي تربط بين أفرادها القرابة، والتي كانت تضمن مصالحه في ظل غياب الدولة. وبالموازاة لهذا سيطر النبلاء على المجتمع الأثيني، واستأثروا بكل الامتيازات والصلاحيات؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور صراع اجتماعي بين فئات المجتمع من اجل اكتساب الحقوق والحرية الشخصية، اتضحت معالمه مع المشرعين والمصلحين، بدءا ب «دراكون " ثم "سولون " "وكليسثين" وغيرهم، الذين حاولوا تطوير المجتمع ودولة أثينا، مما ساعد على تعزيز مكانة وشخصية الفرد وضمان حقوقه كمواطن حر ومستقل عن الجماعة، والانتقال إلى دولة القانون والمؤسسات، والتأسيس للنظام الديمقراطي كغاية مثلى.
كما مكنها ذلك التلاحم بين الفرد والدولة، الذي ترسخ مع النظام الديمقراطي، من تجاوز الكثير من الأزمات الخارجية التي ألمت بها، وخاصة منها الحروب الميدية (التحالف الاغريقي بزعامة اثينا ضد امبراطورية الفرس) والحروب البيلوبونيزية (بين حلف أثينا وحلف إسبرطة)، في ظل وجود إسبرطة، المتشبثة بالنظام الأرستقراطي، منافسا وخصما لذودا لها. لكن المسار لم يكن سهلا، كما أن الحفاظ على الديمقراطية لم يكن هو الأخر ممكنا:
لقد بلغ النظام الديمقراطي أوجه في القرن 5 ق م، وبدا تراجعه مع القرن الرابع بسبب اختلال التوازن بين الفرد والدولة، حيث أصبح المواطن يهتم بحقوقه دون الاهتمام بالواجبات، فاتجه المجتمع نحو الفوضى، واتجهت الدولة الأثينية نقو الانهيار.
خــاتـمـة
لم تستطع المواطنة المنظور إليها باعتبارها مثالا للحياة المشتركة حيث يتمكن المواطن البسيط من الاعتزام بالانتماء إلى جماعة، مقاومة أحداث وممارسات حياة سياسية أفرغتها شيئا فشيئا من محتواها، بدون شك لم يختفي المواطن مع بزوغ الإمبراطورية الرومانية لاستمرار "مزايا" قانون يحمي الفرد، لكن المواطنة غيرت تدريجيا من طبيعتها وكان هذا صحيحا بالنسبة لروما فالوظيفة الاقتراعية التي تمثل حجر الزاوية لفعالية المواطن لا تصلح إلا للمصادقة على القرارات التي تتخذها الأقلية الحاكمة وهذا ما يعلن عن قرعة حزن المواطنة الديموقراطية في العهد القديم.
بيبليوغر افية
- الزبير بوحجار، تاريخ الإغريق والرومان، ابن خلدون، بني ملال، 2015 .
- علي الصلابي، المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، دار المعرفة للطباعة والنشر، 2014 .
- علي الدوسري، المواطن والمواطنة، دار ابن كثير، بيروت، 2014.
- حمدي مهران، المواطنة والمواطن في الفكر السياسي، دار الوفاء للطباعة والنشر، 2012 .
- علي الصلابي، مفهوم المواطنة وتطوره التاريخي من العصور اليونانية القديمة حتى تاريخنا المعاصر.
- قويدر عكري، " المواطنة"، الحوار المتمدن، العدد 1775، 2016 .
- بورشيل، ديفيد، "سمات المواطنين: الفضيلة والأخلاق ونشاط المواطنة"، الاقتصاد والمجتمع، 1995.