النظام الفيودالي في أوروبا خلال العصور الوسطى

مقدمة عامة

عرفت أوروبا الغربية خلال أواخر القرن الخامس ميلادي موجة من الغارات شنتها القبائل البربرية القادمة من الشمال أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية وبعدها الكيانات السياسية المحلية وظهور صراعات وحروب بين الأمراء والحكام المحليين، كل ذلك أدى إلى غياب الأمن الأمر الذي حدا ببعض الملوك الصغار البحث عن قوى تحميهم، مما دفعها إلى وضع أسس لقيام نظام يلائم هذه الظروف ألا وهو النظام الاقطاعي أو النظام الفيودالي.


أسباب ظهور النظام الفيودالي

أصل التسمية "الفيودالية"

اشتقت كلمة فيودالية من الكلمة اللاتينية فيودوم « feodum » التي تعني القطعة الأرضية التي يقدمها الملك للتابع مقابل أداء خدمة خاصة، وبشكل أدق فإن الفيودالية كانت تشكل نوعا من العلاقات السياسية والاقتصادية بين الرجال الأحرار كما أنها تعتبر مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية مثل أنظمة الحكومة اللامركزية وهذا يعني أن الفيودالية ظهرت مع تفكك الإمبراطورية الكارولنجية كما يرى المؤرخون عدم ارتباطه بأي نوع من الأنظمة الاقتصادية، لذا يجب أن لا تتكلم عن النظام الفيودالي إلا عندما نتكلم عن مكان نشأته وتطوره في أوربا الغربية.

مصطلحات ذات صلة مع الفيودالية

الفييف Fief: هي قطعة أرضية أو المنحة التي يتسلمها التابع من سيده الفيودالي مقابل مجموعة من الخدمات الإدارية والدفاعية، وكان الفييف يمنح في احتفال رسمي يعكس الاتفاق بين التابع والسيد.

السنيورية: نظام ينظم العلاقة بين سيد حر يمتلك الأرض وبين مزارعين مستبعدين مرتبطين بالأرض، فالعلاقة هنا إذن بين سيد وقن خاضع ومربوط إلى هذه الأرض.

الأقنان: جمع قن، تطلق هذه الصفة على الفلاحين المرتبطين بالأرض وترجع أصولهم إلى فئة العبيد انضاف إليهم عدد كبير من الذين فقدوا حريتهم بسبب الأوضاع التي سادت في أوربا خلال القرن التاسع وهذا ما أدى إلى ظهور طبقة الأقنان ذات أصل حر حتمت عليهم الظروف القبول بهذا الوضع. وكان هذا القن يمتلك هذه الأرض أو تؤجر له مدى الحياة مقابل أن يمنحه السيد الاقطاعي حمايته العسكرية، والمعروف أن القن إذا تزوج أو رزق بمولود فعليه أن يؤدي مبلغا رمزيا للسيد.

نشأة النظام الفيودالي

اختلف المؤرخون حول أصول النظام الفيودالي، إذ هناك من يرى أن هذا النظام أصله روماني وهناك من يرى أن أصله جرماني، ويقول محمود سعيد العمران "بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية في غرب أوروبا واجتياح البرابرة الجرمان لغرب أوربا تغير المجتمع الأوربي تغيرا أساسيا، وإن كان بطيئا كان له الأثر الكبير على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. من جراء الهجرات الجرمانية إلى جوف أوربا، وأصبحت مدن أوربا غير آمنة على نفسها، ولذلك انتقل أعيان المدن إلى قصورهم في الأرياف وأحاطوا أنفسهم بأتباعهم وأعوانهم، وكان على رأس هؤلاء الأعوان الفلاحين والعسكريين".

غير أن من أهم التطورات التي ميزت هذا النظام هو الاختلاط الذي حدث بين السكان الأصليين – الرومان – والعناصر المغيرة – الجرمان – وهو الشيء الذي أدى إلى بناء اجتماعي خاص في غرب أوروبا، نتيجة التداخل بين هذه الشعوب القبلية الجرمانية وغير الجرمانية في محيط سياسي واجتماعي لا يقوم على أساس قبلي بل كانت تؤطره حكومة مركزية تختلف تنظيماتها كل الاختلاف عما ألفته هذه الشعوب ومما لا شك فيه أنهم – الجرمان – قد أدخلوا معهم كثيرا من التنظيمات كاحترام رئيس القبيلة أو العشيرة، إضافة إلى استخدام العبيد، وهذه العناصر كانت لها أهميتها في النظام الفيودالي. انضاف إليه عنصر جديد ألا وهو الجانب الحربي وبالضبط نظام الفروسية فمن المعروف أن محاربي الجرمان كانوا في معظمهم من المشاة لكن تفوق المقاتل الراكب أي الفرسان الذين شاركوا في القتال الفعلي بدا واضحا في قتالهم، وعلى هذا الأساس حاول بعض الملوك التوسع في نظام الفروسية ونخص بالذكر شارل مارتل الذي عمل على جعل جيشه قوة فعالة في ميدان الحرب، وعندئذ استكشف أن تعميم هذا النظام يتطلب منه نفقات ضخمة لإعداد ما يحتاج إليه الفارس حتى يتفرغ للشؤون الحربية والقتال، ولما كانت موارد الدولة الفرنجية محدودة في القرن الثامن فقد لجأ شارل مارتل إلى حل يتفق مع وتقاليد ذلك العصر، فسجل أسماء المحاربين وجعلهم يقسمون له ثم أعطى كل منهم إقطاعا يكفي لسد مطالب معيشته على أن يبقى هذا الاقطاع في حوزته مادام بالخدمة العسكرية.

فأخذ الملوك الذين تلو مارتل في نفس الاتجاه، فبدأوا يؤجرون قوادهم وموظفيهم الإداريين بمنحهم مساحات من الأرض التي أصبحت في القرن التاسع شبه مستقلة عن الحكومة بسبب ما مورس على ملوك الدولة الكارولنجية من ضغوط جراء الهجمات الإسلامية من الجنوب وغارات الفايكينغ والمجريين من الشمال، كل هذا جعل الحكومة المركزية عاجزة عن حماية المناطق الذاتية التي تولي الأساقفة، والبارونات الدفاع عنها من خلال تكوين فرق مقاتلة مستقلة...

خصائص النظام الفيودالي

أسس النظام الفيودالي

الأرض: تعتبر الأرض الركيزة الأساسية التي تقوم عليها العلاقات الاقطاعية أو الفيودالية، ترجع البدايات الأولى لمنح الأراضي على شكل "اقطاعات" في القرن السادس والتاسع الميلاديين، وذلك أن الملوك الميروفنجيون والكارولنجيون بدأوا يؤجرون قوادهم وموظفيهم الإداريين بمنحهم مساحات من الأرض، وهكذا قاموا كبار الأمراء وملاك الأراضي بمنح أرضيهم لأتباع مسلحين مقابل خدمتهم.

هكذا بدأ الربط بين التبعية الفيودالية والأرض الي بسببه نشأت نوعا من الرغبة المتزايدة في امتلاك هذه الأخيرة لدى الأتباع واستمر الحال على هذا النحو حتى ما بعد القرن الثاني عشر حيث أصبح الأتباع يبحثون عن سادة يمنحهم "الاقطاعات"، والذين يملكونها أصبح يتطلعون لامتلاك المزيد منها، الشيء الذي أدى مع نهاية القرن العاشر الميلادي إلى تقسيم الاقطاعات إلى قطع صغيرة أمرا شائعا وكانت هذه العملية تتم عبر درجات السلم من الملك مرورا بالدوق أو البارون إلى الأقل مرتبة أي تابع التابع.

عقد التبعية: نتيجة الفوضى العامة التي عرفتها أوربا الغربية في القرن التاسع دخل صغار ملاك الأراضي في حماية من هم أقوى منهم وأقدر على الدفاع عنهم، وهكذا يلجأ المالك الصغير إلى تسليم أرضيه لسيد أقوى منه ثم يعود ليتسلمها منه فيصبح بالتالي تابعا.

يتضمن عقد التبعية:

  • قسم الولاء: تعود أصوله إلى التقاليد الوثنية القديمة خاصة الجرمانية التي تقضي بدخول الفرد تحت رئاسة زعيم القبيلة؛
  • الحقوق والواجبات: التعاون في الحرب هو الغرض من العلاقة الفيودالية فأهم وظيفة للسيد هي أن يتولى حماية أتباعه وإقطاعهم، أما الأتباع فكان لزاما عليهم أن يخدموا في جيش السيد بالإضافة إلى تقديم خدمات وضرائب؛

الجانب العسكري والحربي في النظام الفيودالي

الفرسان: وجب على الفارس أن يكون ينتمي إلى أسرة نبيلة وكان يخضع لنظام التدريب منذ صغره على يدي أحد الفيوداليين حتى سن رشده، فتتحول العلاقة بهذا الأخير إلى التبعية يتعلم من خلالها كفارس مبدأ للقتال والفروسية ويعتد على استخدام الأسلحة ويقوي جسمه وروحه بالتمارين.

تميزت القرون الوسطى بكثرة الحروب الاقطاعية ولكنها لم تكن مدمرة، فقد تميزت بقلة نفقاتها وقلة قتلاها، وترجع كثرتها لأن السيد الفيودالي كان له الحق في شن الحرب على إقطاعي آخر لا تربطه به صلة الاقطاع القائم على الولاء والإخلاص، بالإضافة إلى ذلك إن الفرسان بصفتهم محاربين كانت أمانيهم أن يموتوا في ميدان القتال، أما روح النظام فكانت ضعيفة في الحروب الفيودالية، إذ اعتقد كل فارس أنه زميل وحليف لقائد أكثر من مرؤوسا له. هذا فإن الحرب من أجل السيد الاقطاعي كانت لا تمنع الفارس من الحرب من أجل نفسه. والواقع أن الحرب الاقطاعية كانت في مجملها عبارة عن مناوشات بين الفريقين ومحاولة لتدمير أرضي العدو.

الجانب الاجتماعي في النظام الفيودالي

انقسم المجتمع الفيودالي إلى عدة طبقات، وانتظم المجتمع على شكل هرمي على رأسه الملك وفي قاعدته الفلاح الصغير، وهذه الطبقات هي من الأعلى نحو الأسفل:

الملك – الدوقات، البارونات، الكونطات – الفرسان، الاكلروس – الفلاحون الأحرار والأقنان.

طبقة رجال الدين والاكلروس: كانت هذه الطبقة مقسمة إلى طبقتين: فئة الكهنة برئاسة الأساقفة وفئة الرهبان، وكان الكثير من الرهبان يعملون بأيديهم إضافة إلى أنهم يتلقون المعونة من الملوك والأسياد على شكل هبات من الأرش أو حصة من الإيرادات الفيودالية التي تركامت في أيدي الكنائس حتى أصبحت هذه الكنائس من أكبر ملاكي الأراضي ورجالها من أكبر السادة الفيوداليين في أوربا.

طبقة النبلاء: تتكون ممن في جوزتهم اقطاعات وكذلك أسرهم، فقد أصبح في نهاية الأمر من الممكن أن يحصل أحد النبلاء على لقب نبيل في بعض البلاد وذلك عن طريق شراء الأراضي الزراعية المملوكة لأحد النبلاء.

طبقة الفلاحين والعمال: تضم هذه الطبقة العمال الذين يحصلون من الأرض على ما يلزمهم وعائلاتهم، إضافة إلى أعداد من الذين لا يملكون شيئا، وخدام المنازل، وقد كانوا متفاوتين في أصولهم ومدى الحرية التي تمتع بها كل فرد.

الجانب الاقتصادي في النظام الفيودالي

شكلت الأرض القاعدة التي يعتمد عليها النظام الفيودالي، ولفهم هذا الجانب لابد من تفسير كيفية توزيع الأرض بين الناس، وماهي طرق فلاحتها؟

الضيعة: اتخذ نظام الضيعة في هذه الفترة أساس الحياة الاقتصادية، وتلاشت أهمية المدن وضعفت التجارة وأصبحت الضيعة تشكل وحدة اقتصادية قائمة بذاتها ولا تربطها بغيرها أي روابط تجارية.

الضرائب الفيودالية: صاغ العرف الفيودالي في غرب أوربا مجموعة من الضرائب منها:

  • ضريبة الحلون: هي أشبه بضريبة الميراث في عصرنا الحالي، كانت تدفع كلما تولى على الاقطاع وريث جديد من سلالة صاحب الاقطاع المتوفي.
  • ضريبة المعونة: هي رأس الأموال يقدمها التابع لسيده في مناسبات خاصة.
  • ضريبة الرأس: يتعين على القن دفعها سنويا للسيد إما نقدا أو عينا سواء من الزبد أو الشمع، ويبدو أن الغرض الأساسي منها كونها رمزا للعبودية.

الجانب السياسي والإداري في النظام الفيودالي

غابت في أربا خلال القرون الوسطى تلك التكوينات السياسية الكبرى كالإمبراطوريات والملكيات وكانت القوة المتواجدة منها ترتكز على وكلاء، ووسطاء محليين لبسط النفوذ والأمن في الأقاليم، تربطهم بالملك رابطة الثقة والولاء.

السلطة التنفيذية: لم يكن الملوك في العصر الفيودالي ملوكا على لشعوبهم بقدر ما كانوا مندوبين من قبل كبار السادة الفيوداليين، فقد كان هؤلاء بالإضافة إلى رجال الدين هم الذين يوافقون على اختيارهم، وكان سلطانهم المباشر منحصرا في أملاكهم الفيودالية أو ضياعهم الخاصة ورغم أن السادة من دوقات وكونتات يدينون بالولاء للملك إلا أن أتباعهم لم يكن لهم هذا الولاء الذي اقتصر على السيد الذي منحهم الاقطاع.

إن الملك في ظل النظام الفيزدالي كان يمتلك من الناحية النظرية جميع أراضي الملاك، ولكنه لم يكن في الواقع الأمر إلا ملكا من كبار الملاك، وكانت قوته ضعيفة عاجزة عن حماية المراكز الأمامية المبعثرة في أنحاء مملكته. وبالتالي فإن سلطته اسمية وكانت الدولة بفهومها الحال هي ضيعة الملك.

الكنسية: اتقدت الكنيسة خلال فترات متقدمة النظام الفيودالي لأنه يضعف الامبراطوريات، لكن سرعان ما توافقت عليه واندمجت معه وأضحى الأساقفة سادة فيوداليين لهم أتباع شأنهم في ذلك شأن النبلاء. وبالتالي لم يعد من الغريب أن نجد في بعض الأحيان أسقفا أو رئيس دير ملكا لضيعته.

هكذا أغدقت الأموال الكنسية من طرف الملوك والسادة على شكل هبات من الأرض وبسبب تراكم هذه الهبات أصبحت الكنيسة من أكثر ملاكي الأراضي، والأساقفة من أكبر السادة الفيوداليين في أوربا.

القضاء: تمثلت المرحلة النهائية من تطور النظام الفيودالي في انتقال السلطة القضائية إلى كبار أتباع الملك الذين نقلوها بدورهم إلى أتباع فصاحب السيطرة على الأراضي له دائما سيطرة سياسية وقضائية على الفلاحين التابعين.

كانت هذه المحاكم تنظر في القضايا والمنازعات التي تطرأ بين السيد وتابعه أو بين الأتباع أنفسهم، أي في حالة اخلال أحد الطرفين بواجب من واجباته كما كانت تنظر في النزاعات الناشئة حول وراثة الاقطاع. وتعقد غالبا في بيت السيد ويحضرها ملحقون من الأعيان.

خاتمة عامة

وختاما، لم يكن النظام الفيودالي بحال من الأحوال يمثل الفوضى والانحلال والانحطاط والظلمات في أوربا في القرون الوسطى، لأنه كان يشكل نظاما تعاقديا يربط مجموعة من الأطراف في إطار محدد وواضح من الحقوق والواجبات.

ورغم أن ظهوره صادف ضعف السلطة المركزية بصفة عامة وانحلال سياسي شامل خاصة فترة الإمبراطورية الكارولنجية، إلا أنه لم يكن سببا فيها بقدر ما كان نتيجة لها وبتعبير آخر فإن هذا النظام كان يعتبر الوسيلة الفعالة التي توصلت إليها أوربا الغربية لتجاوز هذا الوضع المتسم بالفوضى وذلك من خلال وضع نظام حكم يفي بحاجيات المجتمع في مختلف الميادين حربية كانت أو اقتصادية أو إدارية وحتى قضائية.


البيبلبوغرافيا

  • محمود سعيد عمران، حضارة أوربا في العصور الوسطى، دار المعرفة الجامعية، طبعة 1998؛
  • سعيد عبد الفتاح عاشور، أوربا العصور الوسطى النظم ةالحضارة، الجزء الثاني طبعة 1959؛
  • كارل ستيفنس، ترجمة محمد فتحي الشاعر، الاقطاع في العصور الوسطى؛
  • نور الدين حاطوم، تاريخ العصر الوسيط في أوروبا من أواخر العصر الروماني إلى القرن الثاني عشر، الجزء الأول.

تعليقات