يرجع تاريخ الذهنيات إلى تلك السياقات الكبرى التي شهدتها الكتابة التاريخية، وحاصة في القرن العشرين وما بعده، على يد مجموعة من الباحثين الذين انتموا بشكل كبير إلى مدرسة الحوليات، وقد شكل تاريخ الذهنيات واحدا من الاهتمامات البحثية الجديدة التي شهدتها الجامعات في أوربا ولا سيما في فرنسا، وهذا الحقل أي مجال الذهنيات بدأت بوادره الأولى مع الجيل الأول المؤسس لمدرسة الحوليات من قبيل مارك بلوخ ولوسيان لوفيفر، فدعوا بذلك إلى ضرورة تأسيس كتابة تاريخية مجددة تستقي من مختلف العلوم والحقول المعرفية الأخرى، والغرض من ذلك السعي إلى تحقيق نتائج تحقق ذلك التاريخ الشامل في بعده الكوني يأخذ بعين الاعتبار البحث في مجالات ظلت إلى غاية القرن العشرين مهمشة، وتكلل ذلك بالانتقال من التاريخ الأفقي الذي يهتم بالتاريخ السياسي إلى التاريخ العمودي الذي أصبح يولي أهمية كبرى للمجتمع في مختلف تمفصلاته.
يدعو تاريخ الذهنيات إلى الاهتمام بالبحث في قضايا تتعلق بالجوانب الذهنية للمجتمعات، إذ يسعى من خلال ذلك إلى النظر نحو الماضي البشري من الجانب المتعلق بالذهنيات والعقليات، والحقيقة أن أفكار هذا التوجه الجديد في التاريخ يجد بداياته واهتماماته وتفرعاته في أعمال العديد من المؤرخين وذلك منذ صدور أعمال مارك بلوغ ولوسيان لوفيفر، حيث إنه بعد ذلك اشتغل البعض منهم في دراسة قضايا مختلفة والتي تتلاقح في نهاية المطاف في تاريخ الذهنيات، وقد استلهم العديد من المؤرخين الأفكار والعبارات والمواضيع من نصوص وفترات تاريخية مختلفة، فاتخذوها كمشاريع لبحوث أكاديمية تم نشرها على طول القرن العشرين.
مفهوم الذهنيات
لا يرجع في الأصل مصطلح الذهنية أو العقلية إطلاقا إلى لغة المؤرخين، فقد ظهر المصطلح وبدأ استعماله في بداية القرن العشرين على وجهن في اللسان العامي حيث نجده حظي بشيء من الرواج، إذ انطبق على السلوكات وأنظمة المواقف الجماعية والأشكال الذهنية، الشيء الذي يوحي بما فيه الكفاية بالمعنى الألماني على أنه "تصور معين للعالم".
لقد بحث جورج دوبي في المعنى الذي كان يعطيه المعاصرون في ذلك الوقت للجباية أو المبادلات التي نضعها اليوم في الحقل الاقتصادي، وعنوان الفصل معبر جدا، وهو "المواقف الذهنية" وهو يتعلق بشكل عام بما نسميه الضرائب.
إن الجانب الذهني يميل إلى تغطية الحقل الاجتماعي ويندمج فيه ضمن تواصل الطبيعة الانسانية، كما أن الأمد الطويل يلغي التوترات الاجتماعية، تضفي دراسة الذهني طابعا نسبيا على الوعي بهذه التوترات والتناقضات التي تترتب عنها، والانسان المنحصر في ذهنيته هو موضوع لتاريخه بدلا من أن يكون فاعله.
نشأة تاريخ الذهنيات
اعتبر العديد من المؤرخين أن تاريخ الذهنيات ليس تاريخا جديدا، إذ ترجع البدايات الأولى لظهور هذا النوع من التاريخ، عند العديد من المؤرخين مثل الفرنسيين لوسيان لوفيفر ومارك بلوخ والبلجيكي هنري بيران وبعض الجغرافيين مثل دمنجون، وهذه الأسماء هي التي أوحت منذ سنة 1929م بظهور مايعرف بحوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي.
إن أسماء هؤلاء الكتاب الذين ذكرناهم بمختلف تخصصاتهم سواء أكانوا ينتمون إلى مدرسة الحوليات أو كانوا غرباء عنها، فإنهم يقرون بالتاريخ لحقل آخر غير الحقل الذي كان محصورا فيه من قبل، وهو ذلك التاريخ الذي يهتم بالأفعال الواعية والإرادية والموجهة في اتجاه ذلك القرار السياسي ونشر الأفكار وسلوك الناس وسير الأحداث.
عند المؤرخين الفرنسيين المؤسسين لمدرسة الحوليات، نجد بأن مارك بلوخ يتقاسم مع لوسيان لوفيفر الاهتمام بتاريخ الذهنيات، فهو من خلال ذلك يعطي مكانة مركزية لعلم النفس. يشكل تاريخ الذهنيات كما كان في السابق أي خلال الجيل الأول لمدرسة الحوليات وجها من تاريخ كبير وشاسع وهو التاريخ الاجتماعي وكذلك التاريخ الاقتصادي والاجتماع الذي نريده أن يكون شموليا. إن هذا هو التاريخ الذي كان في ذلك الوقت متعارضا مع التاريخ السياسي الوقائعي، وهنا نجد التاريخ التقليدي من جهة، والتاريخ الاجتماعي من جهة ثانية، وداخله يضم في الوقت نفسه التاريخ الاقتصادي والتاريخ الثقافي الذي يسمى من الآن بتاريخ الذهنيات.
في السابق كان التاريخ التقليدي يهتم بصورة خاصة بالأفراد والفئات العليا من المجتمع وبنخبه وبالوقائع كالحروب والثورات والمؤسسات السياسية والدينية والاقتصادية التي تهيمن عليها في الغالب النخب، وعلى النقيض من ذلك يهتم التاريخ الاجتماعي بالكتل الاجتماعية التي بقيت على هامش السلطة، خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت الحوليات تسمى: بحوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وقد رأينا بالنسبة إلى مارغريث دونافارو وفرانسوا الأول كيف انه كان العامل النفسي للذهنية مألوفا بالنسبة إلى لوسيان لوفيڤر، ونقول نفس الشيء بالنسبة لمارك بلوخ: الملاك صناع المعجزات. غير أن فروع الذهنيات لم تكن مفصولة لدى جيل الحوليات الأول بما يكفي من الوضوح عن الاقتصاد والاجتماع الاقتصادي.
تكشف الديموغرافيا عن الذهنيات من خلال البحث والتنقيب داخل الكتب في الماضي نجد أنه "لم يكن أناس الماضي يحبذون الحديث عن هذا الواقع الذهني أمام الحياة والسن والمرض والموت، ولم يكونوا في كثير من الأحيان واعين بذلك، لقد أظهرت جداول مرقمة في الأمد الطويل أنماطا من السلوك لم يكن من السهل التعرف عليها بطريقة أخرى، وهكذا تبرز الذهنبات في نهاية تحليل الإحصائيات الديموغرافية. وهكذا نجد أنه يوجد ما بين السلوك الديموغرافي ومستوى الإمكانيات ما يشبه البصري الذي يغير الصورة الحقيقية وهو نظام الذهنيات، وهكذا إذا انبعث تاريخ الذهنيات للمرة الثانية بفضل الديموغرافيا التاريخية.
في سنوات الستينات شهدت الساحة عودة تاريخ الذهنيات إلى الظهور في الكتابات التاريخية الفرنسية بحيث تغيرت فهارس المجلات الكبرى وحتى تلك التي كانت محافظة، وكذلك بحوث الطلبة في مستوى الأستاذية وشهادة الدكتوراه، وفي السبعينات تراجعت المواضيع الاجتماعية والاقتصادية، وعزوفا نسبيا عن المواضيع الديموغرافية، وعلى النقيض من ذلك وقع هناك غزو لمواضيع كانت في الماضي قليلة أو غير معروفة. الشيء الذي عجل ببروز الاهتمام بالذهنيات أو العقليات، فتم بذلك إحراز تقدم كبير على حساب باقي المجالات ولا سيما الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية.
الذهنيات موضوعا للتاريخ
مع تطور الكتابة التاريخية في مدرسة الحوليات بدأت الكتابات التاريخية تتخذ من مجال الذهنيات والعقليات موضوع للتاريخ، وخاصة مع الانفتاح على العديد من العلوم الاجتماعية الأخرى التي ساهمت في ظهور تاريخ الذهنيات، إذ "إن علم النفس التاريخي تجاوزه الزمن سريعا في حين أصبح المستقبل زاهرا بالنسبة إلى البحوث التي استفادت من البنيوية والتي تتناول المنطق الداخلي والتمثلات الجماعية غير الواعية وظروف الإنتاج الثقافي والظواهر الذهنية في علاقتها بالحياة الاجتماعية بالمجموعات الاجتماعية".
أصبح تاريخ العقليات يشكل حقل اهتمام واحساس عريض داخل البحث التاريخي، كما أن هذا النوع من التاريخ لم يحظى بتعريف دقيق، لكن وكما يحصل في غالب الأحيان، فإننا نجد أن الضبابية نفسها لهذا المفهوم هي التي ضمنت له النجاح عبر الامكانات اللامتناهية للتكيف. وبالتالي يمكن القول بأن التاريخ الأنثروبولوجي قد اقترن بتاريخ العقليات وذلك لخصوبة هذا المفهوم ومرونته وفاعليته التفسيرية، إذ أن معظم مؤرخي الحوليات استخدموه في سياق ابستمولوجي، وذلك نظرا للتراجع الكبير للتحليل البنيوي وأيضا لإيجاد بديل إلى الانخناق الذي شهده البحث التاريخي وخصوصا ذات الصلة بالتاريخ الاقتصادي.
من هنا انتقل حقل التاريخ والمؤرخ إلى نحو الكشف عن أغوار نفسية الانسان وذلك عبر تطور السلوكيات والحساسيات والتصورات، وهنا يجب ادراك هذا التوسع المعرفي لصالح مدرسة الحوليات والتي أصبحت تلعب دورا محركا بدون منازع، فقد أصبح تطور الذهنيات موضوعا محبذا لدى رواد مدرسة التاريخ الجديد، إذ يجب الاعتراف هنا على أن مجالا الذهنيات بإمكانه اختراق التاريخ بكل أريحية وسهولة وبدون أية عوارض، وهنا وفي أغلب الأحيان، يكتفي المؤرخ الجديد برسم تطور التمثلاث، وهنا يمكن الذهاب والاياب بين الجانب الذهني والجانب الاجتماعي، بحيث أنه في كثير من الأحيان يترك مكانا لعملية إبدال وحجب المحيط الاجتماعي وراء المحيط الذهني.
وفي سياق اخر شدد جاك لوغوف على أهمية المخيال، وذهب بعيدا في هذا التشديد، إذ اعتبره محركا تاريخيا، وذلك بقوله "التاريخ بدون مخيال يبقى تاريخا مبتورا"، والناس هنا لم تعش بالطعام والشراب فقط، بل أيضا هي في حاجة ماسة إلى أشياء أخرى لتحيا معهم كالاعتقاد في الكرامات والعجائب التي يسمعوا عنها أو توهموا بأنهم رأوها كشفاء المرضى المجانين.
نلاحظ هنا على أن التاريخ بدأ بتأويل المعطيات الاقتصادية والديموغرافية بطريقة مختلفة، عن طريقة علماء الاقتصاد أو علماء الديموغرافيا، قبل أن يدخل بلدان جديدة، أي أنه يجسد ذلك المرور من التاريخ الديموغرافي الصرف إلى تاريخ الذهنيات.
فب واقع الأمر نجد أن تاريخ الذهنبات هو تاريخ ذهنيات الماضي وليس الحاضر أو الحالي، أي أن الذهنيات بشكل عام تشكل جزء لا يتجزأ من ماضي التاريخ البشري، فلذلك أصبحت تشكل مجالا خصبا لدراسة المخيال الجمعي للناس بمختلف فئاتهم وثقافاتهم.
وبالنظر إلى جهود هؤلاء المؤرخين الذين ذكرناهم في معرض الحديث، أو الذين سنأتي على ذكرهم، يحق لنا التساؤل عن لماذا هذا التذبذب في البحث بمواضيع تاريخ الذهنيات، على الرغم من أن البوادر الأولى ظهرت مع لوسيان لوفيفر ومارك بلوخ ثم بعد ذلك عرفت الساحة خفوتا ليعاود الظهور بشكل كبير وقوي في سبعينات وستينات القرن الماضي؟
إن للجواب علاقة اتصال بتطور مجالات البحث في مدرسة الحوليات والتجديدات التي طرأت عليها مع الأجيال التي تعاقبت عليها، بحيث أن لكل جيل اهتماماته واختصاصاته البحثية، ولعل ظهور التاريخ الجديد ساهم بشكل كبير في تطور التاريخ الذهني والذي اهتم أساسا بدراسة تطور فكر الجماعات البشرية مع التاريخ، على أنها تتحكم فيها ارهاصات فكرية تركبت وتسللت إلى المخيال الجمعي للناس مع مجموعة من العادات والطقوس والتصورات حول قضايا مختلفة.
يعالج تاريخ الذهنيات أو العقليات مستويات متعددة من الحياة الفردية والجماعية للناس، بحيث أنه ينتقل إلى دراسة المضمون اللا شخصي لتفكريهم، فهو بذلك يساهم في تفسير مجموعة من الظواهر الأساسية والتي تمكننا من فهم تلك الاستمراريات والقطع مع عادات وأنماط تفكير وظهور أخرى، بمعنى آخر الغوص في أذهان المجتمع والبحث عن الميكانزيمات التي تنتج الاستمرار والتحول داخله، "هكذا نفضي إلى وضع غريب نسبيا، لقد عرف تاريخ العقليات نموذج نجاحا كبيرا في الوقت الذي فشل فيه كإجرائية. ففي سنوات الستينات كان عليه مقاومة العمليات الخجولة للمقاربة النفسانية (أعمال - A. Besançon و M. De Certeau في فرنسا) وأيضا الطرح التشكيكي الأكثر تطرفا على النمو الذي قام به فوكو، فقد نظر هذا الأخير للممارسات والخطابات الثقافية المنخرطة في فضاء نفس التصور كمجموعة من العناصر المتلائمة والمنتظمة وفق مستويات للعبة الاجتماعية للسلط. هنا نصل إلى تاريخ العقليات على أن له قدرة كبيرة على التكيف واكتساب جاذبية للبحث في مواضيع كانت مغمورة.
نماذج من الدراسات التي تناولت تاريخ الذهنيات
- مارخ بلوخ، "الملوك صناع المعجزات"؛
- موريس أغولون، "التوابون والبناؤون الأحرار في منطقة البروفانس القديمة"؛
- ميشال فوفيل، "التقوى الباروك وتراجع المسيحية في منطقة البروفانس في القرن الثامن عشر"؛
- فيليب أرياس، " تاريخ السكان الفرنسيين ومواقفهم أمام الحياة"؛
- جان دولومو، "الخوف في الغرب من القرن الرابع إلى القرن الثامن عشر"؛
- جاك لوغوف، "التاريخ الجديد"؛
- فرانسوا دوس، "التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد"؛
- ميشال فوكو، "تاريخ الجنون" و "تاريخ الجنس"؛
- جورج دوبي، "المراتب الثلاث أو مخيال الفيودالية"؛
- جيلبير دوران، "بنيات المخيال الأننثروبولوجية"؛
- لوسيان لوفيڤر، "معارك من أجل التاريخ"؛
- فرناندو بروديل، "المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني"؛
- جاك لوغوف، "العقليات: تاريخ مبهم في عمل المؤرخ"؛
خاتمة
يشكل تاريخ الذهنيات أهمية كبيرة لدي الباحثين والمؤرخين، ومجالا خصبا للخوض في نفسانيات وتمثلاث المجتمع، بحيث أنه قد اتضح بالملموس كيف تطور تاريخ الذهنيات وكيف أصبح كأحد المجالات التي تشغل أسئلة الباحثين، إذ مكنتهم الذهنيات من النفاذ إلى المجتمع، كما أثبتت الخبرة الكبيرة لدى أجيال مدرسة الحوليات، وخاصة الجيل الثالث وما بعده في صبر أغوار تاريخ الذهنيات.
وكما رأينا في السابق، نجد بأن الذهنية هي فضاء ما وراء التاريخ تسعى إلى دفع فضول المؤرخين الراغبين في الذهاب بعيدا، وأيضا من أجل معانقة العلوم الإنسانية الأخرى واستغلال مناهجها في البحث في ذهنية الإنسان والتي ظلت مجهولة، إلى حين ظهور باحثين اتخذوا من موضوع العقليات موضوعا لدراساتهم وكتاباتهم.
في هذا المجال يلتق مؤرخ العقليات مع عالم النفس الاجتماعي، فقد تبين أن كلاهما يتعامل أو يبحث في السلوك والتمثيل لدى الإنسان وأيضا الدوافع الخفية التي تجعل منه إنسانا يتصرف بذلك الشكل، وبعبارة أخرى فإننا نجد تاريخ الذهنيات يتموقع بين نقط التقاء الفردي والجماعي، والزمن الطويل واليومي،ً والارادي واللاوعي، أي انه يكشف بصورة عامة عن المضمون اللاشخصي لتفكير الإنسان.
المصادر والمراجع
- خالد طحطح، في فلسفة التاريخ، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ص 9 و10؛
- جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم محمد طاهر المنصوري، الطبعة الأولى بيروت 2007، مركز دراسات الوحدة العربية؛
- فرانسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة محمد طاهر، المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى بيروت 2009؛
- جاك روفيل، تاريخ العقليات، ترجمة محمد حبيدة، مجلة أمل، المجلد 3، العدد 7، سنة 1996، الصفحات 70 و63؛
- محمد حبيدة، المدارس التاريخية، برلين، السوربون، استراسبورغ، من المنهج إلى التناهج، دار الأمان الرباط.