مدرسة الحوليات

عرف حقل الدراسات التاريخية خلال القرن 19م تحولات كثيرة، نتيجة لظهور المدارس التاريخية التي اختلفت نظرتها للتاريخ ومناهج البحث فيه، ولعل من بين أهم تلك المدارس نجد مدرسة الحوليات الفرنسية التي تمكنت من خلال النظريات الجديدة أرساها روادها، من تغيير النظرة السائدة للتاريخ من قبل، حيث تطور منهج البحث التاريخي وعرف أبعادا أخرى أكثر شمولية.

فكيف نشأت وتطورت هذه المدرسة؟ ما هي أهم الأفكار التي جاءت بها؟ ومن هم أهم روادها؟

مدرسة الحوليات تأسست هذه المدرسة التاريهية على يد مجموعة من الرواد هم: مارك بلوخ، فرديناند بروديل ولوسيان لوفيفر - مدونة الاجتماعيات
رواد مدرسة الحوليات وهم من اليمين إلى اليسار: مارك بلوخ، فرديناند بروديل ولوسيان لوفيفر

نشأة وتطور مدرسة الحوليات

تشكلت مدرسة الحوليات تدريجيا مستفيدة من التطور الذي عرفته العلوم الاجتماعية وخصوصا علم الاجتماع والجغرافيا والفلسفة، ومن الانتقادات التي أصبحت تطال المدرسة الوثائقية انطلاقا من نهاية ق 19 م. وسيعرف معها ميدان التاريخ تطورا نوعيا خاصة فيما يتعلق بمفهوم الوثيقة ومفهوم الحدث وربط الماضي بالحاضر وطرح المؤرخ للأسئلة.

وستتمكن هذه المدرسة من فرض هيمنتها على حقل التاريخ والبحث الأكاديمي ومؤسساته بفرنسا لمدة طويلة، كما أنها لم تسلم خلال مسارها من انتقادات العلوم الإنسانية المنافسة مثل الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا اضطرتها في عدة محطات إلى تجديد مناهجها وتطوير أدواتها. ولهذا نجد المتخصصين في المجال يميزون فيها بين الجيل الأول المؤسس الذي ركز على البعد الاجتماعي والاقتصادي للتاريخ والجيل الثاني الذي ركز على البعد الجغرافي والمدى الطويل والاقتصادي للتاريخ، وجيل ثالث كان من وراء مفهوم "التاريخ الجديد" الذي طرح موضوعات جديدة ومقاربة جديدة تمحورت حول "تاريخ الذهنيات" وجيل رابع حاول مواجهة الانتقادات التي أخذت تطال المدرسة من الزملاء المؤرخين وبدأ معه نفوذها يتقلص مقابل تزايد إشعاع تيارات تاريخية جديدة منافسة.

الجيل الأول المؤسس (1929 م- 1940 م)

ارتبطت نشأة مدرسة الحوليات بإصدار سنة 1929 م، المجلة التي استمدت منها هذه المدرسة اسمها، وهي مجلة "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي (annales d’histoire économique et sociale) أسسها كل من مارك بلوك ولوسيان فيبر اللذان شرعا في وضع أسس تيار تاريخي جديد متأثر بأفكار عالم الاجتماع فرانسوا سيميان حول دور المؤرخ، ويستعين بالجغرافيا وعلم الاجتماع والاقتصاد لخدمة التاريخ، بالتالى انفتاح التاريخ على العلوم والتخصصات الأخرى والانتقال من دراسة الأحداث السياسة إلى دراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى عدم اعتماد الوثائق المكتوبة فقط، بل يجب اللجوء إلى مواد أخرى أثرية وفنية ومسكوكاتية، فكل شيء هو مصدر حسب لوسيان فيبر.

الجيل الثاني: المدى الطويل والتاريخ الاقتصادي (1947م - 1969م)

ارتبطت هذه المرحلة بمجموعة من المؤرخين من بينهم فرناند بروديل وإرنست لابروس وبيير كوبير إلا أنها كانت أكثر ارتباطا بالمؤرخ فرناند بروديل الذي يعود له الفضل فيما شهدته من تجديد ومسايرة للتطورات التي عرفتها بعض العلوم الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية خاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ومنافستها لعلم التاريخ ووضعه المتميز ضمن العلوم الاجتماعية. وتتميز هذه المرحلة بإعطاء أهمية كبيرة للتاريخ الاقتصادي وإبداع مفهوم جديد وهو مفهوم الزمن الطويل وقد ميز بروديل ثلاثة مستويات:

  • الزمن الجغرافي: وهو زمن المدد الطويلة، زمن البنيات ويتميز بتغيره البطيء؛
  • الزمن الاجتماعي: وهو زمن الظرفيات، زمن المدد المتوسطة، مثل تاريخ تطور الاقتصاد والمجتمع؛
  • الزمن الفردي: وهو زمن يطابق زمن الوقائع والأحداث السياسية كالحروب والمعاهدات وحكم الملوك؛

الجيل الثالث: الأنثروبولوجيا التاريخية

عرفت هذه المرحلة، مرحلة السبعينات، مجموعة من المؤرخين البارزين الذين واصلت عبرهم مدرسة الحوليات تألقها وعلى رأسهم جاك لوغوف، إيمانويل لا دوري ثم بيير نورا. وقد نحى هذا الجيل نحو وجهة جديدة في كتابة التاريخ عرفت باسم "الأنثروبولوجيا التاريخية" وقد تناولت الحوليات خلال هذه المرحلة موضوعات جديدة مثل تاريخ التغذية، الموت، المرض... والملاحظ في هذا الاتجاه الجديد أنه قد تحول التاريخ من المقاربة الشمولية التي سعى إليها فرناند بروديل إلى مرحلة تفتت فيها الموضوعات تفتتا كبيرا وهذا ما يفسر الانتقادات التي سيوجهها جيل رابع إلى الجيل الثالث.

الجيل الرابع من مدرسة الحوليات

ظهرت في نهاية الثمانينات تيارات جديدة من داخل فرنسا وخارجها هددت هيمنة مدرسة الحوليات من بينها على سبيل المثال التاريخ المجهري بإيطاليا، والتاريخ الاجتماعي الإنجليزي. كما أصبح موضوع التاريخ المفكك والمحدود زمانا ومكانا أكثر جاذبية من التاريخ العام الكلى وقد استجاب لكل الانتقادات التي وجهت لهذه المدرسة من طرف مجموعة من المؤرخين في مقدمتهم برنارد لوبوتي الذي تولى إدارة مجلة الحوليات وحاول جاهدا إعادة الاعتبار للبعد الاقتصادي في كتابة التاريخ والتنبيه من جديد لدور الفرد كفاعل أساسي في المجتمع.

أهم أفكار مدرسة الحوليات

  • من أهم الأفكار التي جاءت بها هذه المدرسة:
  • الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والذهنيات بدل التاريخ السياسي والعسكري؛
  • الانسلاخ من الكتابة التاريخية التقليدية للتاريخ ودراسة الإنسان والمجتمع بكل أبعادههما وفي كل محطاتهما التاريخية دراسة علمية تجريبية وموضوعية على غرار الدراسات التي تتم في العلوم كالفيزياء والرياضيات؛
  • ظهور تخصصات وحقول معرفية جديدة تفرعت عن التاريخ، حيث ظهر التاريخ الإشكالي، وتاريخ العقليات والذهنيات والعديد من الميادين من علم التاريخ؛
  • الانفتاح على كل الميادين والحقول والعلوم والآداب؛
  • الابتعاد عن السرد السطحي وإعطاء الأولوية للتحليل؛
  • تطور مفهوم الوثيقة والاستعانة بكل مخلفات الإنسان في الدراسات التاريخية؛

أهم رواد مدرسة الحوليات

مارك بلوك (1886م - 1944 م)

مؤرخ فرنسي من أصول يهودية ألزاسية، تخصص في تاريخ العصور الوسطى، وهو أحد مؤسسي مدرسة الحوليات، شغل منصب أستاذ بجامعة ستراسبورغ، وجامعة باريس وجامعة مونبلييه. من أهم مؤلفاته: "المجتمع الإقطاعي"، " السمات الأصلية" للمجتمع الفرنسي"، وكتاب "مهنة المؤرخ".

لوسيان فيبر (1878م - 1956 م)

مؤرخ فرنسي، من مؤسسي مدرسة الحوليات، عمل بجامعة ستراسبورغ ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية وبكلية الدراسات المتقدمة، كما أنه عرف بمشاركته في تصميم الموسوعة الفرنسية.

فرناند بروديل (1902م - 1985 م)

مؤرخ فرنسي، من مؤسسي مدرسة الحوليات الحديثة، عمل بجامعة ساو باولو ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية ومعهد الدرا سات السياسية بباريس. من مؤلفاته: "البحر الأبيض المتوسط"، "الحضارة المادية"، "الاقتصاد والرأسمالية".

خاتمة

مرت مدرسة الحوليات بمجموعة من الخطوات والمراحل في مسار إنشائها وتبلورها وخروجها إلى حيز الوجود سنة 1929م، وجاءت بمجموعة من الأفكار والنظريات، التي أغنت حقل التاريخ ومناهجه، أهمها الانفتاح على باقي العلوم و إعطاء الزمن والتاريخ والأحداث نسقا أخر جديد، مع مفكرين كبار من طينة لوسيان فيبر، ومارك بلوخ، وفرناند بروديل، ودوبي ولوغوف، وجابت أفكارها ونظرياتها سائر أوربا وعموم أمريكا، كما أن هذه الأفكار  والآليات التي قامت عليها مدرسة الجوليات هي الأخرى لا تخلوا من السلبيات والهفوات، فالانفتاح المفرط على باقي التخصصات والحقول من شأنه أن يفقد التاريخ خصوصيته وكينونته.


المصادر والمراجع

  • الكتابة التاريخية، خالد طحطح، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، 2012؛
  • المدارس التاريخية، محمد حبيدة، دار الأمان الرباط؛
  • مدرسة الحوليات ودورها ن في الكتابات والمناهج التاريخية، د. صليحة بوزيد، مجلة رؤى تاريخية للأبحاث والدراسات المتوسطية، المجلد 1 العدد 2 أكتوبر 2020؛
  • مناهج البحث التاريخي، ذ. عبد العزيز أكرير، جامعة السلطان مولاي ملال سليمان كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال مسلك التاريخ والتراث والحضارة 2019 / 2020؛
  • المدارس التاريخية ومناهجها، كمال تهوم، المدرسة العليا للأساتذة تطوان مرتيل 2016 /2017؛

تعليقات